حتى يئس من رحمة الله. فقد دخل عليه صاحبه عبيد الله البزاز النيشابوري قادما من سفر في شهر رمضان، ووجد حميد بن قحطبة يتأهب لتناول طعام الغداء، وبعد قليل أحضر الطعام، ودعا حميد صاحبه إلى تناول الطعام، فاعتذر بأنه صائم، وقال: لعل للأمير عذرا ومسوغا شرعيا للإفطار، أما أنا فصائم. فأجاب حميد: ليس بي علة ولا عذر لي، ثم دمعت عيناه، وبكى وراح يسرد فصول القصة المأساوية المروعة، وهو يقول لصاحبه: أي مغفرة أرجو وأي صيام ينفع، بعد أن ولغت في هذه الجريمة، وقتلت من ذرية علي وفاطمة ستين بريئا؟ وبأي وجه ألقى الله ورسوله؟! (1) ونموذج آخر لذلك: فقد ذكر أن محمد بن أبي عمير الأزدي، كان من أوثق الناس عند الخاصة والعامة - يعنى سنة وشيعة - وأنسكهم نسكا وأورعهم وأعبدهم، وحكى عن الجاحظ أنه قال: كان أوحد أهل زمانه في الأشياء كلها. وقال أيضا: وكان وجها من وجوه الرافضة، حبس أيام الرشيد ليلى القضاء، وقيل: بل ليدل على الشيعة وأصحاب موسى بن جعفر (ع)، وضرب على ذلك وكاد يقر لعظم الألم، فسمع محمد بن يونس بن عبد الرحمن يقول له: اتق الله يا محمد بن أبي عمير، فصبر ففرج الله عنه.
وروى الكشي: أنه ضرب مئة وعشرين خشبة أيام هارون، وتولى ضربه السندي بن شاهك، و كان ذلك على التشيع، وحبس فلم يفرج عنه حتى أدى من ماله واحدا وعشرين ألف درهم، و روى أن المأمون حبسه حتى ولاه قضاء بعض البلاد، وروى أنه حبس سبع عشرة سنة، وفي مدة حبسه دفنت أخته كتبه، فبقيت مدة أربع سنين، فهلكت الكتب (2).
وسجل التاريخ ملاحم أخرى لتلامذة الإمام الكاظم (ع)، وأصحابه في السجون والمعتقلات، فقد روى:... وكان من أصحابه على بن هاشم بن البريد، وعبد الله بن علقمة، ومخول ابن إبراهيم السهدي، فحبسهم جميعا هارون الرشيد في المطبق (3)، فمكثوا فيه اثنتي عشرة سنة (4).
وهكذا كان الظرف السياسي وسياسة السلطة العباسية. وفي هذه الظروف والأوضاع السياسية الخانقة عاش الامام، وكان طبيعيا أن يناله ظلم الرشيد، وأن يلحقه السجن والاضطهاد، إذ روى بعض المؤرخين والرواة: كان السبب في قدوم موسى بن جعفر إلى بغداد، أن هارون الرشيد أراد أن يعقد الامر لابنه محمد بن زبيدة (الأمين)، وكان له من البنين أربعة عشر ابنا، فاختار منهم ثلاثة: محمد بن زبيدة وجعله ولى عهده،