ساجد. فقال لي: تعرفه؟ هو موسى بن جعفر، أتفقده الليل والنهار، فلم أجده في وقت من الأوقات الاعلى هذه الحالة، انه يصلى الفجر فيعقب إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة، فلا يزال ساجدا حتى تزول الشمس، وقد وكل من يترصد أوقات الصلاة، فإذا أخبره وثب يصلى من غير تجديد وضوء، وهو دأبه فإذا صلى العتمة أفطر، ثم يجدد الوضوء، ثم يسجد فلا يزال يصلى فيجوف الليل حتى يطلع الفجر (1).
وجاء كذلك.
فأمر بتسليم موسى إلى الفضل بن يحيى، فجعله في بعض دوره ووضع عليه الرصد، فكان مشغولا بالعبادة يحيى الليل كله: صلاة وقراءة ويصوم النهار في أكثر الأيام، ولا يصرف وجهه عن المحراب، فوسع عليه الفضل بن يحيى وأكرمه (2).
ومن روائع تأثيره: ان هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن جعفر جارية خصيفة، لها جمال و وضاءة لتخدمه في السجن، فقال: قل له: (بل أنتم بهديتكم تفرحون). لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها، قال: فاستطار هارون غضبا، وقال: ارجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك ولا برضاك أخذناك، واترك الجارية عنده وانصرف. قال: فمضى ورجع، ثم قام هارون عن مجلسه وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها، تقول: قدوس، سبحانك سبحانك، فقال هارون: سحرها والله موسى بن جعفر بسحره (3).
فلعل هارون أراد أن يغرى الامام ويشغله عن أهدافه بجمال الحسان ومتع الحياة، منطلقا من فهمه وتقويمه هو لنفسه، وما درى أن الامام مستغرق في جمال الحق وفان بحب الله، قد أعرض عن الدنيا وزينتها، فلا الجواري يشغلن باله، ولا متع الحياة تستهوي نفسه، بل هو داعية حق، وصاحب رسالة قد نذر نفسه لمبادئه، وأوقف ذاته على ذات الله سبحانه، فغدا منارا يهدى بقوله وعمله، وداعية يرشد بصمته ونطقه، فصمته نطق بلسان العمل، ونطقه هدى بكلمة الحق، لذا استهوى هديه قلب الجارية، واستولى سلطان روحه على روحها وعقلها حتى غدت تنادي سبوح، قدوس، مشدوهة سأجدد، بعد أن كانت ترتع في مسارح اللهو، وتكرع في كؤوس الهوى والغرام، وتقضى وقتها وهي تداعب أوتار الطرب وأنغام الشعر، وتستمتع بحلل الديباج وعقود اللؤلؤ، فصار ديدنها الصلاة والتسبيح والتقديس حتى ماتت، وقيل إن موتها كان قبل شهادة الإمام موسى ابن جعفر (ع) بأيام.
وهكذا اختط الامام الأجيال المسلمين السيرة الفذة، والسير في طريق ذات الشوكة،