لأنه أوفق بهوى النفوس، وأبعد عن التبعة والتضحية.
ولكن الإنحراف (الفتنة) لا يبلغ درجة الشمول واستيعاب كل مؤسسات المجتمع، ولا يستطيع أن يغير بنيته الثقافية من جميع وجوهها، ولا يقدر على أن يستوعب في مفاهيمه وقيمه الجديدة المبتدعة أو القديمة المحياة - كل الفئات الاجتماعية، ومن ثم فهو لا يستطيع أن يقضي نهائيا على حركة المجتمع التقدمية. إنه يعوقها ولكنه لا يعطلها، يشوهها ولا يمسخها، إنه لا يبلغ درجة الفتنة الشاملة، وإنما يكون فتنة غالبة.
تبقى مع الإنحراف الغالب روح الطهارة والأصالة شائعة في المجتمع بوجه عام، تغذي حركته التقدمية في أكثر من وجه من وجوه حياته ونشاطاته، وإن كانت هذه الروح تتعرض دائما للنكسات بالنسبة إلى عامة المجتمع، ولكنها تبقى على وهجها الكامل وفاعليتها الكاملة في جماعات قد تكون محدودة وصغيرة، منبثة في ثنايا المجتمع سلمت من الإنحراف فلم ينل منها شيئا، وبقيت ثابتة على الصراط المستقيم.
هذه الجماعات الأصيلة الطاهرة هي طليعة الكفاح ضد الفتنة الغالبة في داخل المجتمع.. هي التي تحول بين الفتنة وبين أن تستوعب كل المجتمع وتغدو شاملة، وهي التي بكفاحها الدائب الصبور تحول بين الفتنة وبين التمكن والاستقرار، وتجعلها في حالة حرب مستمرة.
ومن هنا فإن المجتمع في حالة الفتنة الشاملة يتمتع باستقرار وثبات نتيجة لتناغم المؤسسات مع القيم مع القناعات الشعبية مع الثقافة العامة، فهذه كلها تتكامل وتتساند، وتتوفر نتيجة لذلك حالة من التوازن توفر بدورها استقرارا وثباتا.
أما في الفتنة الغالبة فإن الأمر على خلاف ذلك، لأنه يوجد تنافر قليل أو كثير بين المؤسسات والقيم والقناعات والثقافة، وهذا يؤدي إلى أن يعاني المجتمع باستمرار من القلق والفوران والتمزق، نتيجة لوجود القوى المناهضة للفتنة، هذه القوى التي تضطر حركتها الأصيلة المناهضة نظام الفتنة إلى أن يتحرك ضدها.
* والفتنة الغالبة، في عالم الإسلام، هي الفتنة التي استفحلت في آخر عهد الخليفة عثمان بن عفان، وقاد الإمام علي بن أبي طالب حركة التصدي لها طيلة السني