وانصرف، فشرق، وغرب، ثم رجع إلى أرض بابل بعد أن دوخ الأرض.
فلما صار في أداني العراق، مما يلي الجزيرة، اعتل، فاشتدت علته، فلما يئس من نفسه، وعلم أن الموت قد نزل به، كتب إلى أمه كتابا يعزيها عن نفسه، وقال لها في آخره: اصنعي طعاما، واجمعي من قدرت عليه من نساء أهل المملكة، ولا يأكل من طعامك من أصيب بمصيبة قط! فعملت طعاما، وجمعت الناس، ثم أمرتهم ألا يأكل من أصيب بمصيبة قط، فلم يأكل أحد، فعلمت ما أراد.
ومات الإسكندر بموضعه الذي كاتب منه، فاجتمع أصحابه، فكفنوه، وحنطوه، وصيروه في تابوت من ذهب، ثم وقف عليه عظيم من الفلاسفة، فقال: هذا يوم عظيم كشف الملك عنه، وأقبل من شره ما كان مدبرا، وأدبر من خيره ما كان مقبلا، فمن كان باكيا على ملك، فعلى ها الملك فليبك، ومن كان متعجبا من حادث، فمن مثل هذا الحادث فليتعجب.
ثم أقبل على من حضره من الفلاسفة، فقال: يا معاشر الحكماء! ليقل كل امرئ منكم قولا يكون للخاصة معزيا، وللعامة واعظا. فقام كل واحد من تلامذة أرسطاطاليس، فضرب بيده على التابوت، ثم قال: أيها المنطيق ما أخرسك! أيها العزيز ما أذلك! أيها القانص أنى وقعت موضع الصيد في الشرك من هذا الذي يقنصك؟
ثم قام آخر فقال: هذا القوي الذي أصبح اليوم ضعيفا، والعزيز الذي أصبح اليوم ذليلا.
وقام آخر فقال: قد كانت سيوفك لا تجف، ونقماتك لا تؤمن، وكانت مدائنك لا ترام، وكانت عطاياك لا تبرح، وكان ضياؤك لا يكسف، فأصبح ضوءك قد خمد، ونقماتك لا تخشى، وأصبحت عطاياك لا ترجى، وأصبحت سيوفك لا تنتضى، وأصبحت مدائنك لا تمنع.
ثم قام آخر فقال: هذا الذي كان للملوك قاهرا، فقد أصبح اليوم