القسم الرابع هو ما يندفع بالعلم من المضار الدنيوية وهو أيضا نوعان. الأول دفع المصالح والمقاصد وجلب المعايب والمفاسد واليه أشار قوله عليه الصلاة والسلام: به توصل الأرحام أي بالعلم توصل الأرحام بين الأنام وتدفع مضرة القطيعة وحقدهم وحسدهم ومحاربتهم والثاني مضرة اجتلاب المفاسد برفض القانون الشرعي العاصم من كل ضلال واليه أشار قوله عليه الصلاة والسلام: وبه يعرف الحلال والحرام بالعلم تبين أحدهما من الاخر وهو أساس جميع الخيرات. فتأمل في بيان منافع العلم وكيفية جوامع الكلم وأكثر الصلاة على صاحبه عليه الصلاة والسلام.
الاعلام الثالث: في دفع ما يتوهم من الضرر في العلم وسبب كونه مذموما. اعلم أنه لا شئ من العلم من حيث هو علم بضار ولا شئ من الجهل من حيث هو جهل بنافع لان في كل علم منفعة ما في أمر المعاد أو المعاش أو الكمال الانساني وانما يتوهم في بعض العلوم انه ضار أو غير نافع لعدم اعتبار الشروط التي يجب مراعاتها في العلم والعلماء فان لكل علم حدا لا يتجاوزه. فمن الوجوه المغلطة ان يظن بالعلم فوق غايته كما يظن بالطب انه يبرئ من جميع الأمراض وليس كذلك فان منها [ما] لا يبرأ بالمعالجة ومنها ان يظن بالعلم فوق مرتبته في الشرف كما يظن بالفقه انه أشرف العلوم على الاطلاق وليس كذلك فان علم التوحيد أشرف منه قطعا. ومنها ان يقصد بالعلم غير غايته كمن يتعلم علما للمال أو الجاه فالعلوم ليس الغرض منها الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق على أنه من تعلم علما للاحتراف لم يأت عالما انما جاء شبيها بالعلماء. ولقد كوشف علماء ما وراه النهر بهذا الامر ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم وقالوا كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم وإذا صار عليه اجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل فيكون سببا لارتفاعه ومن ههنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها. ومنها ان يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله كما أنفق في علم الطب فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة فصار مهاتا لما تعاطاه اليهود فلم يشرفوا به بل رذل العلم بهم.
وما أحسن قول أفلاطون ان الفضلية تستحيل في النفس الردية رذيلة كما يستحيل الغذاء الصالح في البدن السقيم إلى الفساد. ومن هذا القبيل الحال في علم احكام النجوم فإنه لم يكن يتعاطاه الا العلماء به للملوك ونحوهم فرذل حتى صار لا يتعاطاه غالبا الا جاهل يروج أكاذيبه ومنها أن يكون العلم عزيز المنال رفيع المرقى قلما يتحصل غايته ويتعاطاه من ليس من أهله