أما قول الكمال بعد أسطر: " وأما ظاهر العدالة: فعدل واجب القبول ": فمراده: عدل الظاهر خفي الباطن، الذي يسميه المحدثون مستورا.
وأما الجهالة الثانية: فقال الإمام البزدوي 1: 704 ما ملخصه - ومثله ابن الهمام 2: 249 -: " أما المجهول: فإنما نعني به المجهول في رواية الحديث، بأن لم يعرف إلا بحديث أو حديثين، فإن روى عنه السلف وشهدوا له بصحة الحديث صار حديثه مثل حديث المعروف، وإن سكتوا عن الطعن بعد النقل: فكذلك، وإن اختلف فيه مع نقل الثقات عنه: فكذلك عندنا، فأما إذا كان ظهر حديثه ولم يظهر من السلف إلا الرد لم يقبل حديثه وصار مستنكرا لا يعمل به على خلاف القياس، وأما إذا لم يظهر حديثه في السلف فلم يقابل برد ولا قبول: لم يترك به القياس، ولم يجب العمل به، لكن العمل به جائز، لأن العدالة أصل في ذلك الزمان، ولذلك جوز أبو حنيفة رحمه الله القضاء بظاهر العدالة من غير تعديل، حتى إن رواية مثل هذا المجهول في زماننا لا يحل العمل بها، لظهور الفسق ".
ففي هذا النقل عدة فوائد وملاحظات، أهمها: أن الأمر ليس على الإطلاق الذي حكاه ابن المواق عن الحنفية، وغير ابن المواق كثيرون ينسبونه إليهم، هذا العزو غير الدقيق الواقع من بعض العلماء إلى مذاهب أخرى غير مذاهبهم: كثير جدا في كتب العلم، من الحنفية وغيرهم، فلا بد من التثبت ومراجعة كتب المذاهب المنسوب إليها القول.
ومن فوائد هذا النقل: أن الإمام أبا حنيفة إنما قال هذا القول - على ما فيه من قيود - بناء على واقع عصره، أما ابن حبان المتوفى سنة 354، بعد أبي حنيفة بمائتي سنة وأربع سنين: فلا عذر له إن كان ينظر إلى عصره، لكن كلامه يدل على أنه ذهب إلى ما ذهب إليه بناء على النظر والاستدلال، لا لملحظ زمني. فافترقا.
وأما ما نقله السخاوي عن النووي رحمه الله في مقدمة " شرح مسلم ": فهو صحيح هنا، وعبارته 1: 28:
" المجهول أقسام: مجهول العدالة ظاهرا وباطنا، ومجهولها باطنا مع وجودها ظاهرا - وهو المستور - ومجهول العين. فأما الأول: فالجمهور على أنه لا يحتج به، وأما الآخران: فاحتج بهما كثيرون من المحققين ". فمراد السخاوي: مجهول العين الذي دخل تحت قول النووي: وأما الآخران...
لكن يبدو لي أنه حصل سبق ذهن للإمام النووي في حكاية أصحاب هذه الأقسام الثلاثة، يدل على هذا كلامه نفسه في " التقريب " ص 210 بشرحه " التدريب " - وهي المسألة السادسة من مسائل النوع الثالث والعشرين - قال: " رواية مجهول العدالة ظاهرا وباطنا لا تقبل عند الجماهير، رواية المستور - وهو عدل الظاهر خفي الباطن -: يحتج بها بعض من رد الأول... وأما مجهول العين: فقد لا يقبله بعض من يقبل مجهول العدالة ".
ونحوه في " إرشاد طلاب الحقائق " له ص 112 من المسألة الثامنة من النوع الثالث والعشرين، ولفظه في مجهول العين: " الثالث: مجهول العين، وقد يقبل مجهول العدالة من لا يقبل مجهول العين "، وقال أولا عن مجهول العدالة: " لا تقبل روايته عند الجماهير " أي: القليل من العلماء من يقبل رواية مجهول العدالة، وبعض هذه القليل - وهو النادر - من يقبل رواية مجهول العين. وهذا هو الذي يتمشى مع كلام ابن الصلاح أصل كلام النووي ومصدره، وهو المتفق مع النظر.
فأشد المجاهيل الثلاثة جهالة هو مجهول العين الذي لم نثبت شخصيته ووجوده بعد، ثم مجهول