ما لم نجعل العدل إلا من لم يوجد منه معصية بحال: أدانا ذلك إلى أن ليس في الدنيا عدل، إذ الناس لا تخلو أحوالهم من ورود خلل الشيطان فيها، بل العدل: من كان ظاهر أحواله طاعة الله، والذي يخالف العدل: من كان أكثر أحواله معصية الله ".
وعبر عن هذا المعنى في مقمة " المجروحين " 1: 8 بقوله: " وأقل ما يثبت به خبر الخاصة - يريد:
الآحاد - حتى تقوم به الحجة على أهل العلم: هو خبر الواحد الثقة في دينه، المعروف بالصدق في حديثه... ".
ومن أجل هذا: ذهب بعض المعاصرين إلى أن شرط ابن حبان في " صحيحه " أقوى وأشد من شرطه في " ثقاته "، وكأن الحافظ ابن حجر رحمه الله يشير إلى هذا المعنى حين يقول في " التهذيب " مرارا: فلان ذكره ابن حبان في " الثقات " وأخرج حديثه في " صحيحه "؟ والله أعلم.
وهل شارك أحد ابن حبان بمذهبه الذي ذهب إليه في " ثقاته "؟
الجواب: ذكر السخاوي رحمه الله في " فتح المغيث " 1: 293 - 297 عددا من المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلا راو واحد، ثم قال: " قيل أهل هذا القسم مطلقا من العلماء من لم يشترط في الراوي مزيدا على الإسلام، وعزاه ابن المواق للحنفية حيث قال: إنهم لم يفصلوا بين من روى عنه واحد، وبين من روى عنه أكثر من واحد، بل قبلوا رواية المجهول على الإطلاق. انتهى.
وهو لازم كل من ذهب إلى أن رواية العدل بمجردها عن الراوي تعديل له، بل عزا النووي في مقدمة " شرح مسلم " لكثير من المحققين الاحتجاج به، وكذا ذهب ابن خزيمة إلى أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور، وإليه يومئ قول تلميذه ابن حبان...
وقيد بعضهم القبول بما إذا كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل، كابن مهدي وغيره...
وهو مخدوش.
وكذا خصه ابن عبد البر بمن يكون مشهورا، أي بالاستفاضة ونحوها في غير العلم، بالزهد، أو بالنجدة، فأما بالشهرة بالعلم والثقة والأمانة: فهي كافية من باب أولى.
ويقرب من ذلك: انفراد الواحد عمن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وخص بعضهم القبول بمن يزكيه - مع رواية الواحد - أحد من أئمة الجرح والتعديل، واختاره ابن القطان، وصححه شيخنا - أي ابن حجر - وعليه يتمشى تخريج الشيخين في " صحيحهما " لجماعة، أفردهم المؤلف - أي الحافظ العراقي - بالتأليف...
وكذا صرح ابن رشيد بأنه لو عدله المنفرد عنه: كفى، وصححه شيخنا أيضا إذا كان متأهلا لذلك.
وبالجملة: فرواية إمام ناقل للشريعة لرجل ممن لم يرو عنه سوى واحد في مقام الاحتجاج: كافية في تعريف وتعديله ".
ثم نقل عن ابن كثير قوله: " إذا كان - الذي لم يرو عنه إلا واحد - في عصر التابعين والقرون المشهود لأهلها بالخيرية: فإنه يستأنس بروايته ويستضاء بها في مواطن ".