الفصول الغروية في الأصول الفقهية - الشيخ محمد حسين الحائري - الصفحة ٢٩٥
التعويل على تلك الظنون إنما هو لتحصيل الظن بصدق الرواية و صحة صدورها فإذا حصل الظن بذلك من غير جهة عدالة الراوي بل من جهة الظن بتحرزه عن الكذب ساوى تلك الظنون في الإفادة وقضية وحدة المناط عدم الفرق بينهما في الحجية مع أنا قد بينا حجية الظن في الأدلة وحجية مثل هذه الأخبار إن لم تكن قطعية فلا أقل من أن يكون ظنية بملاحظة ما ذكرناه فتكون حجة وهو المطلوب احتج المشترطون للعدالة بوجهين الأول قوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وأجيب بأن الوقوف على التوثيق نوع تبين وأن التعليل بإصابة قوم بجهالة إنما يجري في الفاسق الغير الموثق إذ نبأ الفاسق الموثق يفيد الظن كالعادل فلا يصدق في حقه الإصابة بجهالة فيختص الحكم به لتوافق التعليل ويشكل الأول بأن التبين تطلب البيان ولا يصدق على صورة الظن ولهذا لا يقول الظان تبين لي كذا وهذا بين جدا والثاني بأن الجهالة ليس معناها عدم الاعتقاد الراجح بل عدم العلم فيندرج الظن فيها كأخويه من الشك والوهم و لا يعارض ذلك بأن العلم كثيرا ما لا [لم] يحصل بخبر العادل فيلزم أن يكون العمل فيها بجهالة لان المراد بالعلم الذي يقابل به الجهالة ما يعم العلم العقلي والشرعي وبعبارة أخرى ما يتناول العلم الواقعي والظاهري فالعامل بما نصبه الشارع طريقا عامل بالعلم كالعامل بالعلم العقلي والعالم بغير العلم بنوعيه عامل بالجهالة كالعامل بالظن الغير الشرعي هذا هو التحقيق في توجيه التعليل وظهر أن لا منافاة بين ظاهر التعليل وإطلاق ما علل به هذا بل الوجه في الجواب ما نبهنا عليه آنفا من منع العموم وعلى تقدير تسليمه يخص بما مر من الأدلة الثاني ما ذكره المحقق من أن دعوى التحرز عن الكذب مع ظهور الفسق مستبعد والجواب منع الاستبعاد لأنا نرى بالعيان أن كثيرا من الفساق يوجد فيهم ملكة التحرز عن بعض المعاصي حتى يكاد يبلغ فيه درجة الوسواس ولا يبالي لغيره من المعاصي ثم إن بعض العامة ذهب إلى جواز العمل بخبر مجهول الحال ومال إليه بعض متأخري أصحابنا أو احتجوا عليه بمفهوم الآية السابقة ووجهوا الاحتجاج بها بأن الفاسق من علم فسقه فيندرج مجهول الحال ومعلوم العدالة في إطلاق المفهوم فلا يجب التبين في بنائه والجواب بعد منع مفهوم الآية كما عرفت أن الفاسق موضوع لمن اتصف بالفسق واقعا لا لمن علم فسقه لان الألفاظ على ما هو التحقيق موضوعة بإزاء معانيها الواقعية لا الاعتقادية بدليل التبادر وصحة السلب مع أن من يجعلها موضوعة بإزاء معانيها الاعتقادية يريد به معتقد المستعمل لا مطلق الاعتقاد ولا معتقد المخاطب كما يفصح عنه دليله فلا أثر لمعتقد المخاطب فيه كما هو مبنى الاستدلال قال بعض الأفاضل إذا علق أمر بشئ فالظاهر أن المراد ما هو مدلول ذلك الشئ بحسب الواقع فإذا قيل زيد صالح أو فاسق أو شاعر أو كاتب فالمراد اتصافه بالصفة المذكورة بحسب نفس الامر لا بحسب معتقد المخاطب وإلا لانحصر فائدة الخبر في إفادة لازم معناه واضح للمخاطب الجزم بكذب المتكلم بمحض عدم اعتقاده بما أخبر به ولما كان إثبات المتكلم لتحقق المحمول في نفس الامر إثباتا لما أخبر به ولما صح طلب إقامة الدليل عليه لأنه حينئذ بمنزلة أن يقول أقم الدليل على أني معتقد بذلك وبطلان اللوازم كلها بينة فظهر أن المتبادر من الفاسق هو الفاسق الواقعي انتهى ملخصا وأورد عليه بعض المعاصرين بأنه من الاشتباه بين النسبة الخبرية المصرحة أعني النسبة التامة التي بين المحمول و الموضوع والنسبة التقييدية الحاصلة بين ذاتي الموضوع والمحمول و وصفيهما العنوانين الثابتين لهما فإن معنى زيد صالح أن ما هو زيد في الواقع صالح في الواقع والتعبير عن المحمول ليس بجيد والوجه ما هو صالح في الواقع فكلمة في الواقع في الموضعين قيد للنسبتين التقييديتين المأخوذتين في طرفي النسبة الخبرية وليس المراد بالواقع هنا ما يقابل الامكان أعني ما يرادف الفعلية بل ما يقابل معتقد المخاطب ولا ما هو واقع في معتقد المتكلم بل ما هو واقع في الواقع وأما النسبة الخبرية المستفادة من الجملة فلا يلزم أن يكون مقيدة بالواقع نعم ظاهر المتكلم دعوى مطابقته للواقع وأنه معتقد لذلك ووضع الجملة الخبرية لإفادة هذه النسبة ولا يجري فيه توهم إرادة ثبوت النسبة على معتقد المخاطب حتى يتفرع عليه اللوازم المذكورة فالملازمة ممنوعة وإن كان بطلان اللوازم ظاهرا أقول وهذا لا يراد غير منقح المفاد ولا متضح المراد و لم نجد لمحصله بعد التأمل تعلقا بمقالة المجيب بل الوجه في الدفع أن يقال من يدعي أن الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها الاعتقادية يجعل مداليل الألفاظ ومصاديقها دائرة مدار الاعتقاد فما يعتقد كونه مسمى للفظ يصح استعماله فيه وما يعتقد كونه مصداقا للمسمى يصح إطلاقه عليه فمعنى زيد صالح أن ما يسمى زيدا في الاعتقاد هو ما يسمى صالحا في الاعتقاد وبعبارة أخرى ما يعتقد كونه مدلول زيد هو ما يعتقد كونه مدلول صالح والمراد بالنسبة المأخوذة في الحمل أيضا ما يعتقد كونه معناها وهو غير اعتقاد وقوع معناها ولو أطلق صالح على رجل فقيل جاءني صالح أو جئني بصالح فالمراد ما يعتقد كونه فردا لما يعتقد كونه مدلولا لصالح لهذا المفهوم وعليه مبنى الاستدلال بناء على حمل الاعتقاد على اعتقاد المخاطب أو على ما يتناوله فاتضح الفرق بين النسب التقييدية المأخوذة في إطلاق الكلي على الفرد كما هو محط كلام المستدل وبين النسب الخبرية المأخوذة في الجمل الحملية كما هو مورد كلام المجيب فإن وقوع النسبة في الأول مأخوذ بحسب الاعتقاد فيتم الاستدلال وفي الثاني مأخوذ باعتبار الخارج فلا يستقيم الجواب نعم لو التزم المستدل بأن الوقوع في النسب الخبرية مأخوذ أيضا بحسب اعتقاد المخاطب فلا محيص له عن الاشكالات المذكورة فإن قلت أخذ النسبة التقييدية التي في المحمول باعتبار المعتقد يكفي في ترتب اللوازم المذكورة
(٢٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 290 291 292 293 294 295 296 297 298 299 300 ... » »»