الفصول الغروية في الأصول الفقهية - الشيخ محمد حسين الحائري - الصفحة ١٩٣
يرمي كلاما كاذبا كذلك لا عبرة بعدم مطابقة النسبة المقصودة ما لم تكن مقصودة بالذات وإلا لكذبت الكنايات التي لا تطابق معانيها الأصلية للواقع كما في قولك زيد كثير الرماد ومهزول الفصيل وجبان الكلب حيث لا يكون له رماد ولا فصيل ولا كلب فإن صحة الاستعمال المذكور وجوازه حينئذ مما لا مجال لانكاره وقد نبه عليه بعضهم مع أنه يشتمل على نسب جزئية مقصودة غير مطابقة للواقع بناء على ما حققناه في بعض وجوه الكناية من أنها اللفظ المستعمل في الملزوم لينتقل منه إلى لازمه فلو اقتصر في الكذب على مجرد ذلك لاتجه المنع فيها وحيث اعتبرنا أن تكون النسب الغير المطابقة مقصودة بالذات خرجت عنه لان النسب التي تشتمل عليها غير مقصودة لذاتها بل للانتقال منها إلى لازمها وهو كونه جوادا كما يقتضيه قرينة الكناية ولهذا يعتبر صدقها وكذبها بالنسبة إليه و قد عرفت أن النسبة المقصودة بالذات في المقام إنما هي بالنسبة إلى الباقي دون الجميع ولا يتوهم أن ذلك مما يؤدي إلى استعمال النسبة اللفظية في معنيين لأنها على ما قررنا غير مستعملة إلا في معنى واحد وهو إفادة النسبة الواقعية والكشف عنها وكونها مقصودة بالذات أو غير مقصودة بالذات إنما هو من لواحقها المفهومة من إطلاقها حيث لا قرينة على الخلاف أو القرائن المحفوفة بها فلا يوجب تعدد المعنى المراد بها فصل لا خلاف في بطلان الاستثناء المستوعب كما لا خلاف في صحة استثناء ما دون النصف حكى ذلك غير واحد منهم والتحقيق عندي أن يفصل في المقام الأول بين ما إذا اتحد المستثنى والمستثنى منه مفهوما نحو أكرم كل إنسان إلا كل إنسان أو اختلفا أو انحصر أفراد المستثنى في أفراد المستثنى منه عقلا أو عادة نحو أكرم كل إنسان إلا كل ضاحك أو كل حيوان وبين ما إذا اختلفا وانحصرت أفراده في أفراده اتفاقا نحو قوله أكرم كل من يزورني إلا الفاسق واتفق أنه لم يزره إلا الفاسق فيحكم بالمنع في القسمين الأولين دون الأخير للقطع بجواز ذلك فيما إذا لم يزده أحد فكذا إذا لم يزره غير الفاسق على إشكال فيما إذا علم بالحال ويعرف وجهه مما مر في بحث الامر بالشئ مع علم الامر بانتفاء الشرط هذا وفي جوازه إلى النصف وما فوقه إذا لم يستوعب أقوال فالأكثر على ما قيل على الجواز وعن الحنابلة والقاضي المنع فاعتبروا بقاء الأكثر وربما قيل بجواز المساوي خاصة وفصل شاذ بين ما إذا كان المستثنى منه عددا صريحا كعشرة وبين ما إذا لم يكن صريحا كالجمع المعرف والمضاف فاعتبر في الأول بقاء الأكثر دون الثاني وموضع النزاع جواز الاستعمال وعدمه مطلق لا جوازه حقيقة كما زعمه الفاضل المعاصر لعدم مساعدة عناوينهم وأدلتهم و سائر كلماتهم فيها عليه هذا [هنا] والمختار ما ذهب إليه الأولون لنا وجوه منها أنه لو امتنع فإما أن يكون من جهة المستثنى منه أو النسبة المتعلقة به ولا حجر فيهما إذا صحا وأفادا لما عرفت من أن الاستثناء لا يوجب التجوز فيهما وإما من جهة الأداة ولا حجر فيها أيضا لأنها موضوعة لمطلق الاخراج بدليل التبادر على ما يشهد به الوجدان فيستوي فيه إخراج الأقل والأكثر نعم قد يبلغ إخراج الأكثر إلى حد الاستبشاع فيقبح لكن لا من جهة الخروج عن قانون الوضع بل من جهة ركاكة التعبير ولهذا من اتصف في مثل قول القائل له علي ألف إلا تسعمائة وتسعة وتسعين وفي مثل قوله له علي ألف إلا واحدا وواحدا وواحدا إلى مائة أو مائتين لم يفرق في بشاعة كل من التعبيرين بل ربما كان الثاني عنده أقوى في البشاعة من الأول مع أن ظاهرهم الاتفاق على صحة الثاني فيتعين الصحة على الأول فظهر أن مجرد البشاعة وقبح التعبير لا ينافي صحة الاستعمال من حيث الوضع نعم لو ثبت أن الاستثناء يوجب التجوز في المستثنى منه أو في النسبة اتجه المنع حيث يكون الاستبشاع من قبلهما نظرا إلى انتفاء العلاقة المصححة فإن قلت أي فرق بين الاستبشاع على تقدير الحقيقة وبينه على تقدير المجاز حيث يتأتى المنع في الثاني دون الأول قلت الفرق أن الاستبشاع في الثاني ناشئ من نفس استعمال اللفظ فيمتنع وفي الأول من مجرد التركيب وهو أمر خارج عن استعمال اللفظ طار عليه وفساده لا يقتضي فساد استعمال اللفظ و منها قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فاستثنى الغاوين وهم الأكثر بالوجدان وبدليل قوله وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين فإن ما عدا المؤمنين هم الغاوون ولورود عكسه في قوله تعالى حكاية عن إبليس لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فيمتنع اشتراط الأكثرية واعترض بأن الاستثناء منقطع والمراد بعبادي المؤمنون بدليل أن الإضافة للتشريف فلا إخراج سلمنا لكن لا نسلم أكثرية الغاوين لان العباد يتناول الملائكة والجن أيضا والغاوون أقل بالنسبة إلى الباقين والجواب أن الاستثناء المنقطع مجاز كما مر فلا يضار إليه ما لم يتعذر الحقيقة وكون الإضافة للتشريف ممنوع لمنافاته لعموم المضاف وربما يؤيد ما ذكروه قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفي بربك وكيلا فإن المراد بالعباد هنا خصوص المؤمنين بقرينة عدم الاستثناء وقضية التوفيق بين الآيتين حمل العباد في الآية السابقة أيضا عليهم ويضعفه أن إرادة الخصوص في أحدهما لا ينافي إرادة العموم في الأخرى مع مساعدة ظاهر اللفظ عليه ولا يلزم التوفيق بين الآيتين في مداليل المفردات بل في محصل المعنى وظاهر أنه لا يختلف على التقديرين مع احتمال أن يراد بالعباد في هذه الآية أيضا جميع العباد ويراد بنفي سلطانه عليهم نفي اقتداره على إقهارهم وإجبارهم على المعاصي بحيث يخرجهم عن حد التمكن والاختيار كما فسر به قوله تعالى وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم الآية وقوله حكاية عن الشيطان لعنه الله
(١٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 188 189 190 191 192 193 194 195 196 197 198 ... » »»