وما كان لي عليكم من سلطان ويراد بالسلطان في الآية السابقة الغلبة عليهم بالتسويل والوسوسة والاغواء مع بقاء القدرة والاختيار وليس المراد بعبادي إلا بنو آدم بشهادة سوق الآية عليه مع تصريح المفسرين به واعترض بعض المعاصرين أيضا بأن ظاهر العام أعني عبادي لما كان متناولا لأصناف كثيرة فإخراج صنف واحد منهم هم الغاوون وإن كثرت أفراده لا يستلزم كون الأصناف الباقية أقل أ لا ترى أنه إذا كان هناك جماعة من العلماء والشعراء والظرفاء فأضفتهم وكان عدد الظرفاء أكثر من الباقين فإذا قيل جاء الأصناف إلا الظرفاء أمكن تصحيحه بما ذكر لان الباقي حينئذ أكثر و أما لو قيل جاء الأصناف إلا زيدا وعمرا وبكرا وخالدا إلى آخر الظرفاء عد قبيحا هذا محصل كلامه وجوابه أن الجمع المضاف بظاهره إنما تقتضي العموم بحسب الافراد فلا يعم الأصناف من حيث كونها أصنافا وإن تناولها من حيث تناوله للافراد فحمله على العموم من حيث الأصناف خروج عن الظاهر من غير شاهد فلا يعبأ به و أما التمسك بصحة جاء الأصناف إلا الظرفاء كما في بعض النسخ فليس بشئ لان لفظ الأصناف إنما يعم الافراد من حيث الصنفية و الظرفاء من حيث كونهم صنفا ليسوا بأكثر من الباقي وإن كانوا من حيث الافراد أكثر وفي بعض النسخ جاء الأصناف إلا الظرفاء و يتوجه عليه ما مر من أن عموم الجمع المعرف أفرادي لا أصنافي فاستثناء الظرفاء منهم استثناء للأكثر وأما ما ادعاه من قبح ذلك عند قوله إلا زيدا وعمرا إلى آخر الظرفاء فإنما يسلم منه القبح بمعنى الاستبشاع لا لما ذكره بل لاشتماله على التطويل من غير فائدة لا القبح بمعنى الغلط على ما عرفت ومع ذلك فاللازم لمقالته أن يصح ذلك لا سيما إذا وصفهم بعد ذلك بكونهم الظرفاء حيث إن المخرج حينئذ صنف من الأصناف والباقي أكثر منه إذ لا فرق بينه وبين القسم السابق إلا في كيفية التعبير حيث إن المستثنى مذكور هناك على وجه الاجمال وهنا على وجه التفصيل ومنها ما ذكره العضدي من القطع بصحة قول القائل كلكم جائع إلا من أطعمته و إن كان الباقي أقل واعترض عليه بأن هذا قطع في محل النزاع فيتجه المنع عليه ورد بأن هذه العبارة واردة في الحديث القدسي فلا سبيل إلى منع صحتها واعترض عليه المعاصر المذكور أيضا بأنه يجوز أن يكون المعنى لا يقدر على الاطعام إلا أنا فكلكم يبقى على صفة الجوع لو أراد الاطعام من غيري قال وهذا معنى واضح على من كان له ذوق سليم فلا دلالة فيه على دعواهم ولا يخفى أن هذا التوجيه مما لا يساعد عليه ذوق سليم لبعده عن مساق الحديث مع ما يلزمه من ارتكاب تخصيصه بالأكثر أيضا لان أكثر الناس يريدون الاطعام من غيره تعالى ولا يبقون على صفة الجوع ومنها إطباق العلماء على أن من قال له على عشرة إلا تسعة لم يلزم إلا بواحد و ذلك دليل على صحته ولو ألغوه لألزموه بتمام العشرة كما في الاستثناء المستوعب والظاهر أن الاتفاق فيه غير ثابت لنقل البعض عن بعضهم القول بإلزامه بتمام العشرة واعترض المعاصر المذكور على هذا الدليل بأن اتفاقهم على إلزام الواحد لا يدل على اتفاقهم على صحة الاستثناء لجواز أن لا يقول بعضهم بصحته ويقول بإلزام الواحد نظرا إلى أن الافراد عنده عبارة عما يفهم منه اشتغال الذمة بعنوان النصوصية ولو بلفظ مجازي أو غلط تعويلا على أصالة البراءة كما لو رفع تسعة فإنه لا يحكم عليه أيضا إلا بالواحد وإن كان الاستعمال غلطا وهذا بخلاف الاستثناء المستوعب فإنه لغو محض فيأخذ بأول الكلام هذا محصل كلامه ويمكن أن يقال عليه بالفرق بين أن يكون الاستثناء غلطا وبين أن يكون إعراب المستثنى غلطا فإنه على الأول يتعين إلغاؤه كالاستثناء المستوعب وكما لو أبدل همزتهما أو لامها بحرف آخر من غير مانع أو عبر عن المستثنى بلفظ غلط كما لو أبدل دال الدرهم بحرف آخر لتساوي الكل في كونها غلطا وعلى الثاني يمكن القبول نظرا إلى أن الاخراج يتحقق بالأداة و المستثنى وليس صحة استعمالهما منوطة بصحة الاعراب مع أن بعض الأصحاب كالشهيدين منع من القبول فيه وله وجه وبأن التفرقة بين الاستثناء المستوعب وبين المثال المذكور على تقدير كونه غلطا في محل المنع فإن كون المستوعب لغوا محضا إما لان نفس الاستثناء غلط أو لاستلزامه إلغاء ما قبله حيث يراد منه ما لا يصح إرادته منه وكلا الوجهين جاريان في المثال المذكور فالاستثناء فيه أيضا لغو محض بالاعتبارين فكما يؤخذ بمؤدى الثاني من كونه إقرارا بواحد مع كونه غلطا فيؤخذ أيضا بمؤدى الأول من عدم اشتغال ذمته بشئ وإن كان غلطا فإن معنى له علي عشرة إلا عشرة أن ليس له علي شئ وإن كان استعمالا على خلاف القانون وجريان أصالة البراءة هنا أولى نعم يتجه أن يقال لما كان صحة الكلام المذكور خلافية كان الظاهر من حال المستعمل البناء على الصحة اجتهادا أو تقليدا تنزيلا لكلام العقلا على الوجه الصحيح بقدر الامكان فكما لو أقر به من يعرف من مذهبه الصحة لم نلزمه بما زاد على الواحد قطعا وإن منعنا جوازه فكذلك من جهل حاله في الاستعمال وأما من علم من مذهبه المنع فلا يبعد إلزامه بتمام العشرة حجة الخصم وجوه منها ما ذكره المعاصر المذكور وحاصله أن الاستثناء موضوع بالوضع النوعي للاخراج والأوضاع النوعية إنما تستفاد بالتتبع في كلمات أهل الاستعمال والقدر الثابت بالتتبع فيها كون الاستثناء موضوعا لاخراج الأقل وأما كونه موضوعا لمطلق الاخراج فغير ثابت فيتوقف ثبوته على قيام دليل عليه ومجرد استعماله في إخراج الأكثر في بعض الموارد لا يدل على كونه حقيقة فيه فإن الاستعمال أعم منها فيجوز أن يكون ذلك لعلاقة المشابهة أو ادعاء القلة مبالغة في التحقير أو نحو ذلك ولا يبعد أن يدعى التبادر فيما لو كان المخرج أقل فيكون حقيقة فيه فقط فإن أهل العرف يعدون مثل قول القائل له علي مائة إلا تسعة وتسعين مستهجنا
(١٩٤)