الفصول الغروية في الأصول الفقهية - الشيخ محمد حسين الحائري - الصفحة ١٧٣
يعتريها شك أو تخفي على أوائل العقول أن مطالب العقلا بل و غيرهم لا تتعلق بالطبائع إلا باعتبار وجودها أو عدمها وتعلقها به من حيث هي ممتنع حتى إنه لو قدر قول قائل لا أريد ماهية الشراء مثلا من حيث وجودها وعدمها بل أريدها من حيث هي وأكلف بها كذلك لم يشك أحد في كونه سفها وهذيانا ومع ذلك لا يتبين كونه أمرا أو نهيا لان إرادة الماهية من حيث هي قدر مشترك بينهما حيث إنها مرادة في الامر باعتبار الوجود وفي النهي باعتبار العدم فإذا تجردت عن الاعتبارين بقيت مرددة بينهما وأنت عند التأمل والتحقيق تجد أن من أجاز ذلك فقد شبه على نفسه ولبس أمر وجدانه عليه لسبق ذهنه ببعض الشبهات فأخذ الماهية المطلوبة بأحد الاعتبارين و زعم أنها مجردة عنهما وقد مر التنبيه على ذلك في مباحث النهي و كذلك الحسن والقبح بالمعنى الذي يستتبع الاحكام وأما الحسن بمعنى كمال الماهية والحقيقة والقبح بمعنى نقصها فيجوز أن يلحق الماهية من حيث هي وإليه ينظر قولهم الرجل خير من المرأة فإن وجه الخيرية كمال حقيقته بالنسبة إلى حقيقتها ونقصان حقيقتها بالنسبة إلى حقيقته وكذلك الحال في متفاهم الاستعمال بالنسبة إلى الطبائع التي تقع قيودا للمطلوب أو لمتعلق الحكم ولو بواسطة أو وسائط كما في ادخل السوق وإن أمكن عدم اعتباره نعم يستثنى من ذلك ما يقع منها قيدا للوجود أو الايجاد من غير واسطة كما في أوجد الاكرام فإن المراد بها حينئذ نفس الطبيعة وقد مر التنبيه على ذلك سابقا وإذا تبين لك مما حققنا أن الحقيقة متى تعلق بها حكم شرعي أو ما يكون بمنزلته لزم اعتبارها من حيث الفرد والوجود فنقول إذا كان الحكم مما يصح تعلقه بالحقيقة باعتبار فرد ما بحيث لا يكون في الحمل عليه ما ينافي مقتضى المقام حمل عليه لان امتناع تعلق الحكم بالحقيقة من حيث هي إنما يقتضي أخذها باعتبار الفرد في الجملة وأقله أخذها باعتبار فرد ما فإذا لم يكن هناك ما يوجب اعتبار ما يزيد عليه تعين الاقتصار عليه كما في قولك أعط الفقير درهما أو جئني بالرجل حيث لا عهد وإن كان في أخذ الحقيقة باعتبار فرد لا بعينه ما ينافي قضية المقام كلزوم الاجمال حيث لا يكون هناك شاهد على التعيين كالعهد وشبهه تعين أخذها باعتبار جميع الافراد كما في قوله تعالى وأحل الله البيع فإن الحمل على حلية فرد ما منه مبهم غير معقول لان المبهم لا وجود له فيمتنع قيام الصفة الوجودية وإن كانت اعتبارية به وحمله على فرد معين عندنا ترجيح من غير مرجح وعلى معين في الواقع يوجب الاجمال المنافي لمقتضى الحال حيث إنه سبق في مقام البيان وعلى فرد لا بعينه على البدلية مخالف لاطلاق الكلام على ما هو المفروض في المقام فإن مرجع ذلك إلى اشتراط حلية كل واحد بعدم حصول الاخر وليس في اللفظ ما يدل عليه فيتعين التعميم وقد يصار إلى التعميم نظرا إلى كونه أنسب بما تقتضيه المقام وأوفق بما سيق له الكلام من إظهار الامتنان والانعام و منه قوله عليه السلام خلق الله الماء طهورا الحديث وهذه الحكمة كما توجد في المفرد المعرف فيوجب حمله على العموم كذلك قد توجد في النكرة فيوجب حملها عليه ومنه قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا فإن التنوين فيه إما للتمكن والمراد بالماء الجنس باعتبار تحققه في جميع الافراد بقرينة ما ذكرناه أو للتنكير و المقام يفيد مفاد لفظ كل فكأنه قيل كل ماء والفرق بين الحكمتين أن الثانية تقتضي التعميم بحسب الافراد التي يتحقق فيها الامتنان و الأولى يقتضي ذلك بحسب الافراد المتساوية في تعلق الحكم بها دون المرجوحة وإلى هذا ينظر ما تعارف بينهم من حمل المطلق على الافراد المتعارفة أي المتعارفة بحسب مقام الحكم وتحقيقه أن تعلق الحكم بالحقيقة حيث يتعذر تعلقه بها من حيث هي يقتضي أخذها باعتبار تحققها في ضمن فرد ما فيعم كل فرد لا رجحان لغيره في ذلك الحكم عليه فإذا تحقق رجحان للبعض ككونه أوفق بالحكم المذكور من غيره بحيث يوجب في متفاهم العرف صرف المراد إليه عند الاطلاق تعين الحمل عليه وهذا مما يختلف باختلاف المقام و الأحوال فلفظ العبد في مثل قول القائل وكلتك في شراء العبد ينصرف إلى العبد الصحيح السليم دون المريض والمعيب فالاطلاق تقتضي المقام يقوم مقام التصريح بالقيد بخلاف ما لو نذر أن يعتق عبدا فإن الصحيح وغيره في ذلك سواء فالفرد الصحيح السليم هو الراجح المتعارف في مقام التوكيل في الشراء دون مقام النذر وكذلك الحال في مثل قولك اشتر لي عبدا أو نذر أن يعتق عبدا مع أن النكرة موضوعة لفرد لا بعينه ومما حققنا يتضح لك فساد ما زعمه بعض المعاصرين في المقام من أن انصراف المطلق إلى الافراد الشائعة لعله مبني على ثبوت الحقيقة العرفية في ذلك اللفظ مع هجر معناه اللغوي أو مع بقائه واشتهار المعنى العرفي أو على صيرورته فيها مجازا مشهورا فيرجح على الحقيقة المرجوحة ثم أورد على الأول باستبعاد وقوعه وعلى الثاني بأنه لا مدخل للشهرة في تعيين أحد معاني المشترك وعلى الثالث بمعارضة الشهرة لأصالة الحقيقة ثم عين لحوق الحكم للأفراد الشائعة لتحقق إرادتها على إرادة كل من المعنيين على التقديرين الأخيرين بخلاف غيرهما ولا يخفى أن منع كون الشهرة قرينة على تعيين أحد معاني المشترك مع كونه مكابرة مناف لما ذكره في الأخير من معارضتها لأصالة الحقيقة وكون الافراد الشائعة محققة الإرادة لا يصلح إلا لاثبات الحكم الظاهري في مقام العمل ومقصود القوم من دعوى انصراف المطلق إلى الافراد الشائعة تعيين المراد كما أوضحنا وجهه ومع ذلك ففساد الاحتمالات المذكورة ظاهر إذ ليس شئ منها من انصراف المطلق إلى الافراد الشائعة لا سيما الأول إذ لفظ العبد في مثال التوكيل غير منقول إلى الفرد الصحيح السليم وإلا لفهم ذلك منه في مثال النذر أيضا ولكان قولك اشتر لي عبدا صحيحا كان أو مريضا سليما كان أو معيبا مجازا وهو معلوم الخلاف واحتمال أن يكون موضوعا عند الاطلاق في مثل مقام التوكيل لخصوص الصحيح السليم مما لا يكاد يخفى فساده بعد التأمل في كيفية الدلالة ومنشئها وإلا لأمكن سد باب المجاز بفتح هذا الباب فيقال المجاز موضوع لمعناه المجازي عند احتفافه بالقرينة فلا يتحقق مجاز أصلا بل التحقيق أنه ليس مستعملا إلا في معناه والتقييد بالصحيح والسليم إنما يفهم من قرينة الاطلاق لا من نفس اللفظ فصل الجمع المضاف ظاهر
(١٧٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 168 169 170 171 172 173 174 175 176 177 178 ... » »»