مضافا إلى ما مر أنهما في هذه المرتبة عريتان عن وصف الاتحاد و الاثنينية ولهذا قد تتحدان وقد تتغايران وتحقيقه يطلب من محله ثم اعلم أنه ينبغي أن يحمل الغير في قول القائل بأن كراهة العبادة عبارة عن مرجوحيتها بالنسبة إلى الغير على الطبيعة المجردة عن جميع الاعتبارات الزائدة أو الفرد الذي في مرتبتها كما مر في الجواب السابق إذ لو أطلق لم يستقم لظهور أن كل ما يكون مرجوحا بالنسبة إلى الغير لا يسمى مكروها أ لا ترى أنه لا يقال الزكاة مكروهة لأنها مرجوحة أي أقل رجحانا بالنسبة إلى الصلاة ولا الصلاة مكروهة لأنها مرجوحة بالنسبة إلى المعرفة ولا يقال الصلاة في مسجد السوق مكروهة لأنها أقل رجحانا من الصلاة في مسجد الجامع إلى غير ذلك وحينئذ فيكون ترك الفرد المرجوح مقدمة للتوصل إلى الفرد الأرجح حيث يتوقف عليه كما هو الغالب فيكون مرجوحا له من باب المقدمة لا محالة فيكون قوله فكما يجتمع الوجوب النفسي مع الاستحباب الغيري إلى آخره دفعا للاشكال الوارد على التفصيل المذكور باعتبار ما يلزمه في أكثر الموارد فإن مرجوحية عبادة بالنسبة إلى أخرى تستلزم رجحان تركها لها إذا توقفت عليه ومرجعه إلى الدفع بطريق النقض فلا يرد عليه ما أورده عليه من أن فيه رجوعا عما بنى عليه الكلام أولا وأما ما ذكره في دفع الاستشهاد المذكور فضعفه ظاهر مما قررناه هنا وفي مبحث الواجب المخير و التحقيق أن الوجوب والندب إما أن يتحدا جهة بأن يكونا نفسيين أو غيريين مع اتحاد الغير أو لا فإن كان الأول امتنع الاجتماع لمنافاة المنع من ترك الفعل حينئذ لعدم المنع منه وهذا ظاهر واعتبار تغاير الجهة كما فعله المعاصر المذكور غير مجد في دفع التناقض إذ لا تغاير بين مورد الحكمين لظهور أن إيقاع الصلاة في المسجد و هو الموصوف بالرجحان الندبي عين إيقاع الصلاة الموصوف بالرجحان الوجوبي في الخارج وقد عرفت أن الاحكام إنما تتعلق بالطبائع باعتباره وربما سبق إلى بعض الأوهام أن مورد الاستحباب اختيار الفرد الأفضل ومورد الوجوب هو فعل الواجب وهو واضح الفساد لأنه إن أراد بالاختيار الإرادة فمع فساده في نفسه كما لا يخفى يوجب الخروج عن محل النزاع لان الكلام في استحباب الواجب لا في استحباب إرادته وإن أراد شيئا آخر فهو مما لا يساعد النظر الصحيح على إدراكه وأما حكم بعض الأصحاب باستحباب بعض أفراد الواجب النفسي التخييري عقلا أو شرعا لنفسه كالصلاة في المسجد و كالاتمام في المواضع الأربعة أو الغيري للغير كالسير ماشيا للحج فيمكن تنزيله على معنى أنه أرجح من الافراد المجردة عن الاعتبارات المؤثرة في رجحانها أو أكثر ثوابا منها بقرينة تفسيرهم لمكروه العبادة بما يقابل التفسيرين ويمكن أن يعتبر الاستحباب باعتبار تحصيل الرجحان الثابت في الفعل الزائد على الرجحان الوجوبي فإنه رجحان يرجح تحصيله على التعيين مع جواز تركه لا إلى بدل مطلقا ولا يرد أن ذلك يجري أيضا فيما لا تخيير فيه بتحليل ما فيه من الرجحان مع أنه لا يعتبر فيه وذلك لان امتياز تلك الزيادة هنا بمقابلة البدل يصلح وجها لاعتبارها منفردة بخلاف ما لا تخيير فيه لكن يضعفه أن تحصيل الرجحان الزائد عين تحصيل رجحان الوجوبي فيبقى الاشكال بحاله وإن كان الثاني جاز الاجتماع إذ لو امتنع لكان إما باعتبار الرجحان ولا حجر من هذه الجهة إذ انضمام الرجحان إلى الرجحان لا يوجب إلا تأكد الرجحان أو باعتبار ما تقوما به من المنع من النقيض وعدمه ولا حجر من هذه الجهة أيضا لان الوجوب والندب حيث كانا باعتبار جهتين كان المنع من الترك وعدمه أيضا باعتبارهما ولا منافاة بين المنع من ترك الفعل لنفسه أو لغيره وبين عدم المنع منه لغيره أو لأمر آخر فإن عدم المنع من النقيض بأحد الاعتبارين راجع إلى عدم اقتضاء ذلك الاعتبار للمنع وهو لا ينافي اقتضاء اعتبار آخر له وبالجملة فاللازم له عدم منع خاص فلا يقتضي عدم العام أعني المنع مطلقا فجاز أن يتحقق المنع من النقيض بالاعتبار الاخر وببيان آخر يصدق على الواجب لنفسه أنه ليس بواجب لغيره وذلك يوجب أن لا يكون ممنوع الترك لغيره فإذا انضم إليه رجحانه له حصل ماهية الاستحباب لغيره وكذلك يصدق على الواجب لغيره أنه ليس بواجب لنفسه وذلك يوجب أن لا يكون ممنوع الترك لنفسه فإذا انضم إليه رجحانه لنفسه كان استحبابا نفسيا لا يقال يمكن أن يقال علي الوجه الأول أيضا إن الصلاة المكتوبة ممنوعة من تركها من حيث ذاتها فهي واجبة بهذه الحيثية وغير ممنوعة منه من حيث وقوعها في المسجد إذ ليس لوقوعها في المسجد تأثير في وجوبها بل هي واجبة في ذاتها وقعت في المسجد أو لم تقع فيه لكنها راجحة من هذه الحيثية على التعيين فيكون مندوبة على التعيين من هذه الحيثية لصدق كلا جزئيه من الرجحان وعدم المنع لأنا نقول عدم المنع من تركها من حيث وقوعها في المسجد لا يقتضي عدم المنع من الترك الذي به قوام المندوب بأحد الاعتبارين أعني النفسي والغيري لثبوت المنع بالاعتبار الأول على ما هو المفروض بل إنما يقتضي عدم استناده إلى وقوعها في المسجد وهذا لا يكفي في تحصيل ماهية المندوب النفسي لان المعتبر فيه عدم المنع النفسي لا عدم استناده إلى أمر معين وهذا بخلاف الواجب الغيري ومندوبه فإنه يجوز أن يختلف باختلاف الاعتبار والسر في ذلك أن الواجب النفسي عندهم عبارة عما كان رجحانه أو مطلوبيته لنفسه مع كونه ممنوعا من النقيض لنفسه والمندوب النفسي عبارة عما كان موصوفا بذلك الرجحان أو المطلوبية لكن مع عدم المنع من النقيض لنفسه والمنع من النقيض وعدمه لنفسه مما لا يجتمعان في محل واحد والمطلوب الغيري ما كان مطلوبيته للتوصل إلى غيره وهذا يخالف المطلوب النفسي ويختلف باختلاف الاعتبار لاعتبار مطلوبيته بالقياس إليها و لهذا صح أن يكون مقدمة واجبة لنفسها أو لأمر ومندوبة لاخر فيصدق عليها الواجب النفسي أو الغيري والمندوب الغيري على الحقيقة نعم لو فسر الوجوب النفسي برجحان الفعل في نفسه المانع من النقيض والاستحباب النفسي برجحانه لنفسه الغير المانع من النقيض احتمل الاجتماع لارتفاع التنافي إلا أن المعروف بينهم هو الأول و لهذا حكموا بتضاد الأحكام الخمسة والسر فيه أن الرجحان النفسي لا يتعدد بتعدد الجهات المقتضية له إلا في التحليل الذي ليس مبنى اعتبار الاحكام عليه بل يتأكد ويتقوى بتكثرها ويكون الحاصل
(١٣٥)