أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٥ - الصفحة ٣٨٧
ذلك ثابت في الصحيح، وهو دليل قوي على الجمع بين الأحاديث كما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة الفرع الأول: اعلم أن الظاهر اشتراط التصريح بموجب الحد الذي هو الزنى تصريحا ينفي كل احتمال؛ لأن بعض الناس قد يطلق اسم الزنى على ما ليس موجبا للحد.
ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم لماعز لما قال: إنه زنى، (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت)؟ قال: لا، قال: (أفنكتها)؟ لا يكنى، قال: نعم، قال: فعند ذلك أمر برجمه، وهذا ثابت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس، ويؤخذ منه التعريض للزاني بأن يستر على نفسه، ويستغفر الله فإنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
الفرع الثاني: اعلم أنه إذا تمت شهادة الشهود الأربعة بالزنى فصدقهم الزاني المشهود عليه، بأن أقر أنه زنى مرة واحدة فصارت الشهادة تامة، والإقرار غير تام عند من يشترط أربعا.
الفرع الخامس: اعلم أنه إذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت، واثنان أنه زنى بها في بيت آخر، أو شهد كل اثنين عليه بالزنى في بلد غير البلد الذي شهد عليه فيه صاحباهما، أو اختلفوا في اليوم الذي وقع فيه الزنى، فقد اختلف أهل العلم هل قبل شهادتهم، نظرا إلى أنهم أربعة شهدوا بالزنى، أو لا تقبل؛ لأنه لم تشهد أربعة على زنى واحد، فكل زنى شهد عليه اثنان، ولا يثبت زنى باثنين.
قال ابن قدامة في (المغني): الجميع قذفة وعليهم الحد، وبهذا قال مالك، والشافعي، واختار أبو بكر أنه لا حد عليهم، وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، لأنهم كملوا أربعة، ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنى واحد، فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما. فأما المشهود عليه، فلا حد عليه في قولهم جميعا، وقال أبو بكر: عليه الحد، وحكاه قولا لأحمد، وهذا بعيد، فإنه لم يثبت زنى واحد بشهادة أربعة، فلم يجب الحد، ولأن جميع ما تعتبر له البينة يعتبر فيه كمالها في حق واحد، فالموجب للحد أولى؛ لأنه مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات؛ وقد قال أبو بكر: إنه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء، وشهد اثنان أنه زنى بسوداء فهم قذفة، ذكره القاضي عنه وهذا ينقض قوله، انتهى منه. ثم قال: وإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت، وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه أخرى، وكانت الزاويتان متباعدتين، فالقول فيهما كالقول في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم، وحد المشهود عليه، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا حد عليه، لأن شهادتهم لم تكمل، ولأنهم اختلفوا في المكان، فأشبه ما لو اختلفا في البيتين، وعلى قول أبي بكر تكمل شهادتهم، سواء تقاربت الزاويتان، أو تباعدتا، ولنا أنها إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود، بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا، بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين، فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا.
فإن قيل: فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين، فلم أوجبتم الحد مع الاحتمال، والحد يدرأ بالشبهات؟
قلنا: ليس هذا بشبهة، بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد، فإن هذا يحتمل فيه والحد واجب، والقول في الزمان كالقول في هذا، وأنه متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه، كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم، ومتى تقاربا كملت شهادتهم، انتهى من (المغني).
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد رأيت كلام أهل العلم في هذا الفرع، والظاهر أنه لا تكمل شهادة الأربعة إلا إذا شهدوا على فعل واحد في مكان متحد ووقت متحد؛ فإن اختلفوا في الزمان أو المكان حدوا، لأنهما فعلان، ولم يشهد على واحد منهما أربعة عدول، فلم يثبت واحد منهما. والقول بتلفيق شهادتهم، وضم شهادة بعضهم إلى شهادة بعض لا يظهر، وقد علمت أن مالكا وأصحابه زادوا أن تكون شهادة الأربعة على إيلاج متحد، فلو نظروا واحدا بعد واحد مع اتحاد الوقت والمكان لم تقبل عنده شهادتهم حتى ينظروا فرجه في فرجها نظرة واحدة في لحظة واحدة، وله وجه.
الفرع السادس: إن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض، وشهد اثنان أنه زنى بها في قميص أحمر، أو شهد اثنان أنه زنى بها في ثوب كتان، وشهد اثنان أنه زنى بها في ثوب خز.
فقد اختلف أهل العلم هل تكمل شهادتهم أو لا؟ فقال بعضهم: لا تكمل شهادتهم؛ لأن كل اثنين منهما تخالف شهادتهما شهادة الاثنين الآخرين، وممن روي عنه ذلك الشافعي، وقال بعضهم: تكمل شهادتهم قائلا: إنه لا تنافي بين الشهادتين؛ لإمكان أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين أحد القميصين، وتركا ذكر الآخر، فيكون الجميع صادقين؛ لأن أحد الثوبين الذي سكت عنه هذان هو الذي ذكره ذانك كعكسه، فلا تنافي، ويمكن أن يكون عليها هي قميص أحمر، وعليه هو قميص أبيض كعكسه، أو عليه هو ثوب كتان، وعليها هي ثوب خز كعكسه، فيمكن صدق الجميع؛ وإذا أمكن صدقهم فلا وجه لرد شهادتهم، وبهذا جزم صاحب المغني موجها له بما ذكرنا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لنا في هذا الفرع هو وجوب استفسار الشهود، فإن جزم اثنان بأن عليه ثوبا واحدا أحمر، وجزم الآخران أن عليه ثوبا واحدا أبيض لم تكمل شهادتهم لتنافي الشهادتين، وإن اتفقوا على أن عليه ثوبين مثلا أحدهما أحمر، والثاني أبيض، وذكر كل اثنين أحد الثوبين، فلا إشكال في كمال شهادتهم؛ لاتفاق الشهادتين. وإن لم يمكن استفسار الشهود لموتهم، أو غيبتهم غيبة يتعذر معها سؤالهم، فالذي يظهر لي عدم كمال شهادتهم؛ لاحتمال تخالف شهادتهما، ومطلق احتمال اتفاقهما لا يكفي في إقامة الحد؛ لأن الحد يدرأ بالشبهات، فلا يقام بشهادة محتملة البطلان، بل الظاهر من الصيغة اختلاف الشهادتين والعمل بالظاهر لازم، ما لم يقم دليل صارف عنه يجب الرجوع إليه.
(٣٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 382 383 384 385 386 387 387 387 387 388 389 ... » »»