والذي يظهر أنهم إن لم تكمل شهادتهم يحدون حد القذف. أما في الشهادة المحتملة فإنه قبل إمكان استفسارهم، فلا إشكال في عدم إمكان حدهم وإن أمكن استفسارهم، فإن فسروا. بما يقتضي كمال شهادتهم حد المشهود عليه بشهادتهم، وإن فسروا بما يوجب بطلان شهادتهم، فالظاهر أنهم يحدون حد القذف؛ كما قدمنا، والعلم عند الله تعالى.
الفرع السابع: إن شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة، وشهد اثنان أنه زنى بها مطاوعة، فلا حد على المرأة إجماعا؛ لأن الشهادة عليها لم تكمل على فعل موجب للحد، وإنما الخلاف في حكم الرجل والشهود.
قال ابن قدامة في (المغني): وفي الرجل وجهان:
أحدهما: لا حد عليه، وهو قول أبي بكر، والقاضي وأكثر الأصحاب، وقول أبي حنيفة، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي؛ لأن البينة لم تكمل على فعل واحد، فإن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة، ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين، ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين، وذلك يمنع قبول الشهادة، أو يكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون قول واحد منهما مكذبا للآخر إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما، مكرهة في الآخر، وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد، ولأن شاهدي المطاوعة قاذفان لها، ولم تكمل البينة عليها، فلا تقبل شهادتهما على غيرها.
والوجه الثاني: أنه يجب الحد عليه، اختاره أبو الخطاب، وهو قول أبي يوسف ومحمد، ووجه ثان للشافعي؛ لأن الشهادة كملت على وجود الزنى منه، واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله، فلا يمنع كمال الشهادة عليه.
وفي الشهود ثلاثة أوجه:
أحدها: لا حد عليهم، وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم.
والثاني: عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنى، ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد، كما لو لم يكمل عددهم.
والثالث: يجب الحد على شاهدي المطاوعة، لأنهما قذفا المرأة بالزنى، ولم تكمل شهادتهم عليها، ولا تجب على شاهدي الإكراه لأنهما لم يقذفا المرأة، وقد كملت شهادتهم على الرجل، وإنما انتفى عنه الحد للشبهة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد رأيت خلاف أهل العلم في هذا الفرع، وأظهر أقوالهم عندي فيه: أن الرجل والمرأة لا حد على واحد منهما، وأن على الشهود الأربعة حد القذف. أما نفي الحد عن المرأة، فلا خلاف فيه، ووجهه ظاهر؛ لأنها لم تكمل عليها شهادة بالزنى. وأما نفي الحد عن الرجل، فلأن الاثنين الشاهدين بالمطاوعة يكذبان الشاهدين بالإكراه كعكسه، وإذا كان كل اثنين من الأربعة يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الفعل لم تكمل شهادتهم على فعل واحد، فلم تكمل على الرجل شهادة على حالة زنى واحد؛ لأن الإكراه والطوع أمران متنافيان، وإذا لم تكمل عليه شهادة بفعل واحد على حالة واحدة فعدم حده هو الأظهر، أما وجه حد الشهود، فلأن الشاهدين على المرأة بأنها زنت مطاوعة للرجل قاذفان لها بالزنى، ولم تكمل شهادتهما عليها فحدهما لقذفهما المرأة ظاهر جدا؛ ولأن الشاهدين بأنه زنى بها مكرهة قاذفان للرجل بأنه أكرهها فزنى بها، ولم تكمل شهادتهم؛ لأن شاهدي الطوع مكذبان لهما في دعواهما الإكراه فحدهما لقذفهما للرجل، ولم تكمل شهادتهما عليه ظاهر. أما كون الأربعة قد اتفقت شهادتهم على أنه زنى بها، فيرده أن كل اثنين منهما يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الزنى، هذا هو الأظهر عندنا من كلام أهل العلم في هذا الفرع، والعلم عند الله تعالى.
ومن المعلوم أن كل ما يثبت به الرجم على المحصن يثبت به الجلد على البكر، فثبوت الأمرين طريقه واحدة.
الفرع الثامن: اعلم أنه إن شهد أربعة عدول على امرأة أنها زنت وتمت شهادتهم على الوجه المطلوب، فقالت إنها عذراء، لم تزل بكارتها ونظر إليها أربع من النساء معروفات بالعدالة، وشهدن بأنها عذراء لم تزل بكارتها بمزيل. فقد اختلف أهل العلم: هل تدرأ شهادة النساء عنها الحد أو لا؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أنها يقام عليها الحد ولا يلتفت لشهادة النساء، وعبارة المدونة في ذلك: إذا شهد عليها بالزنى أربعة عدول، فقالت: إنها عذراء ونظر إليها النساء، وصدقنها لم ينظر إلى قولهن وأقيم عليها الحد. انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره، وبالبينة فلا يسقط بشهادة أربع نسوة ببكارتها، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن شهادة النساء ببكارتها تدرأ عنها الحد، وهو مذهب الإمام أحمد. قال ابن قدامة في (المغني): وبه قال الشعبي، والثوري، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي ووجه قول مالك وأصحابه بأنها يقام عليها الحد، هو أن الشهادة على زناها تمت بأربعة عدول، وأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود، فلا تسقط بشهادتهن شهادة الرجال عليها بالزنى، ووجه قول الآخرين بأنها لا تحد هو أن بكارتها ثبتت بشهادة النساء، ووجود البكارة مانع من الزنى ظاهرا؛ لأن الزنى لا يحصل بدون الإيلاج في الفرج، ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة، لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها، وإذا انتفى الزنى لم يجب الحد، كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه الزنى مجبوب.