وهذه الرواية كالتي قبلها في الدلالة على الاكتفاء بالإقرار مرة واحدة إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عدم اشتراط تكرر الإقرار بالزنا أربعا، وأما حجة من قالوا: يشترط في ثبوت الإقرار بالزنا، أن يقر به أربع مرات، وأنه لا يجب عليه الحد إلا بالإقرار أربعا، فهي ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الناس وهو في المسجد، فناداه: يا رسول اللها إني زنيت، يريد نفسه، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال: يا رسول اللها إني زنيت، فأعرض عنه، فجاء لشق وجه النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أبك جنون)؟ قال: لا يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: (أحصنت)؟ قال: نعم، قال: (اذهبوا فارجموه)، الحديث. هذا لفظ البخاري في صحيحه، ولفظ مسلم: فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أبك جنون)؟ قال: لا، قال: (فهل أحصنت)؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا به فارجموه) اه.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه فيه ترتيب الرجم على أربع شهادات على نفسه، أي: أربع إقرارات بصيغة ترتيب الجزاء على الشرط؛ لأن لما مضمنة معنى الشرط وترتيب الحد على الأربع ترتيب الجزاء على شرطه، دليل على اشتراط الأربع المذكورة، والرجل المذكور في هذا الحديث، هو ماعز بن مالك وقصته مشهورة صحيحة، وفي ألفاظ رواياتها ما يدل على أنه لم يرجمه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات؛ كما رأيت في الحديث المذكور آنفا، وقد علمت مما ذكرنا ما استدل به كل واحد من الفريقين.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر قولي أهل العلم في هذه المسألة عندي: هو الجمع بين الأحاديث الدالة على اشتراط الأربع، والأحاديث الدالة على الاكتفاء بالمرة الواحدة؛ لأن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ووجه الجمع المذكور هو حمل الأحاديث التي فيها التراخي، عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في صحة عقله، واختلاله، وفي سكره، وصحوه من السكر، ونحو ذلك. وحمل أحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من عرفت صحة عقله وصحوه من السكر، وسلامة إقراره من المبطلات، وهذا الجمع رجحه الشوكاني في (نيل الأوطار).
ومما يؤيده أن جميع الروايات التي يفهم منها اشتراط الأربع كلها في قصة ماعز، وقد دلت روايات حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدري أمجنون هو أم لا؟ صاح هو أو سكران؟ بدليل قوله له في الحديث المتفق عليه المذكور آنفا: (أبك جنون)؟ وسؤاله صلى الله عليه وسلم لقومه عن عقله، وسؤاله صلى الله عليه وسلم: (أشرب خمرا)؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، وكل ذلك ثابت في الصحيح، وهو دليل قوي على الجمع بين الأحاديث كما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى.
فروع تتعلق بهذه المسألة الفرع الأول: اعلم أن الظاهر اشتراط التصريح بموجب الحد الذي هو الزنى تصريحا ينفي كل احتمال؛ لأن بعض الناس قد يطلق اسم الزنى على ما ليس موجبا للحد.
ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم لماعز لما قال: إنه زنى، (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت)؟ قال: لا، قال: (أفنكتها)؟ لا يكنى، قال: نعم، قال: فعند ذلك أمر برجمه، وهذا ثابت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس، ويؤخذ منه التعريض للزاني بأن يستر على نفسه، ويستغفر الله فإنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
الفرع الثاني: اعلم أنه إذا تمت شهادة الشهود الأربعة بالزنى فصدقهم الزاني المشهود عليه، بأن أقر أنه زنى مرة واحدة فصارت الشهادة تامة، والإقرار غير تام عند من يشترط أربعا.
فأظهر قولي أهل العلم عندي: أن الحد يقام عليه لكمال البينة خلافا لمن زعم أنه لا يقام عليه الحد؛ لأن شرط صحة البينة الإنكار، وهذا غير منكر.
وقال ابن قدامة في (المغني): إن سقوط الحد بإقراره مرة قول أبي حنيفة اه. وكذلك لو تمت عليه شهادة البينة وأقر على نفسه أربع مرات، ثم رجع عن إقراره، فلا ينفعه الرجوع لوجوب الحد عليه بشهادة البينة، فلا حاجة لإقراره ولا فائدة في رجوعه عنه، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثالث: اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي: أنه إذا أقر بزنى قديم قبل إقراره، ولا يبطل الإقرار بأنه لم يقر إلا بعد زمن طويل؛ لأن الظاهر اعتبار الإقرار مطلقا، سواء تقادم عهده، أو لم يتقادم، وكذلك شهادة البينة، فإنها تقبل، ولو لم تشهد إلا بعد طول الزمن؛ لأن عموم النصوص يقتضي ذلك، لأنها ليس فيها التفريق بين تعجيل الشهادة وتأخيرها، خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه في قولهم: إن الإقرار يقبل بعد زمن طويل والشهادة لا تقبل مع التأخير.
وقال ابن قدامة في (المغني): وإن شهدوا بزنى قديم أو أقر به وجب الحد، وبهذا