وقال ابن قدامة في (المغني): ويجب أن يكتفى بشهادة امرأة واحدة، لأنها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال، يعني البكارة المذكورة، انتهى. وأما الأربعة الذين شهدوا بالزنى فلا حد عليهم لتمام شهادتهم وهي أقوى من شهادة النساء بالبكارة.
وقال صاحب (المغني): وإنما لم يجب الحد عليهم لكمال عدتهم، مع احتمال صدقهم لأنه يحتمل أن يكون وطئها، ثم عادت عذرتها، فيكون ذلك شبهة في درء الحد عنهم. وأما إن شهدت بينة على رجل بالزنى فثبت ببينة أخرى أنه مجبوب، أو شهدت بينة على امرأة بالزنى فثبت ببينة أخرى أنها رتقاء، فالظاهر وجوب حد القذف على بينة الزنى، لظهور كذبها؛ لأن المجبوب من الرجال والرتقاء من النساء لا يمكن حصول الزنى من واحد منهما، كما هو معلوم.
المسألة الثانية: اعلم أن العلماء أجمعوا على ثبوت الزنى، ووجوب الحد رجما كان أو جلدا بإقرار الزاني والزانية، ولكنهم اختلفوا هل يثبت الزنى بإقرار الزاني مرة واحدة، أو لا يكفي ذلك حتى يقر به أربع مرات؟ فذهب الإمام أحمد، وأبو حنيفة، وابن أبي ليلى، والحكم: إلى أنه لا يثبت إلا إذا أقر به أربع مرات، وزاد أبو حنيفة وابن أبي ليلى: أن يكون ذلك في أربع مجالس، ولا تكفي عندهما الإقرارات الأربعة في مجلس واحد. وذهب مالك، والشافعي، والحسن، وحماد، وأبو ثور، وابن المنذر إلى أن الزنى يثبت بالإقرار مرة واحدة.
أما حجج من قال يكفي الإقرار به مرة واحدة، فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنيس في الحديث الصحيح المشهور: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، فاعترفت فرجمها. وفي رواية في الصحيح: فأعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت، قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما ظاهرا ظهورا واضحا في أن الزنى يثبت بالاعتراف به مرة واحدة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم فيه: (فإن اعترفت فارجمها)، ظاهر في الاكتفاء بالاعتراف مرة واحدة، إذ لو كان الاعتراف أربع مرات لا بد منه لقال له صلى الله عليه وسلم: فإن اعترفت أربع مرات فارجمها، فلما لم يقل ذلك عرفنا أن المرة الواحدة تكفي؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، كما هو معلوم.
ومن أدلتهم على الاكتفاء بالاعتراف بالزنى مرة واحدة ما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبت حدا فأقمه علي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال: (أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها)،، ففعل فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟ فقال: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)، هذا لفظ مسلم في صحيحه، وهو نص صحيح في أنه صلى الله عليه وسلم، أمر برجمها بإقرارها مرة واحدة؛ لأنها قالت: إني أصبت حدا، مرة واحدة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجمها من غير تعدد الإقرار؛ لأن الحديث لم يذكر فيه إلا إقرارها مرة واحدة.
ومن أدلتهم على ذلك أيضا: ما ثبت في الصحيح من قصة الغامدية التي جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول (صلى الله عليه وسلم)، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان من الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا، فوالله إني لحبلى، فقال: (أما لا فاذهبي حتى تلدي)، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله، قد فطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من السلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد، فسبها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: (مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له)، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت، هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه، وهو من أصرح الأدلة على الاكتفاء بإقرار الزاني بالزنا مرة واحدة؛ لأن الغامدية المذكورة لما قالت له صلى الله عليه وسلم: لعلك أن تردني كما رددت ماعزا، لم ينكر ذلك عليها، ولو كان الإقرار أربع مرات شرطا في لزوم الحد لقال لها إنما رددته، لكونه لم يقر أربعا.
وقد قال الشوكاني في (نيل الأوطار)، بعد ذكره لهذه الواقعة: وهذه الواقعة من أعظم الأدلة الدالة على أن تربيع الإقرار، ليس بشرط للتصريح فيها، بأنها متأخرة عن قضية ماعز، وقد اكتفى فيها بدون أربع كما سيأتي، اه منه.
وفي صحيح مسلم أيضا من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه، ما نصه: قال: ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله طهرني، فقال: (ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه)، فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالكا قال: (وما ذاك)؟ قالت: إنها حبلى من الزنا، فقال: (آنت)؟ قالت: نعم، فقال لها: (حتى تضعي ما في بطنك)، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد وضعت الغامدية، فقال: (إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه)، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله، قال: فرجمها، اه منه.