الأول نسخ التلاوة والحكم معا، ومثاله ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن..) الحديث. فآية عشر رضعات منسوخة التلاوة والحكم إجماعا.
الثاني نسخ التلاوة وبقاء الحكم، ومثاله آية الرجم المذكورة آنفا، وآية خمس رضعات على قول الشافعي وعائشة ومن وافقهما.
الثالث نسخ الحكم وبقاء التلاوة، وهو غالب ما في القرآن من المنسوخ. كآية المصابرة، والعدة، والتخيير بين الصوم والإطعام، وحبس الزواني. كما ذكرنا ذلك كله آنفا.
المسألة السادسة اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السنة بمتواتر السنة. واختلفوا في نسخ القرآن بالسنة كعكسه، وفي نسخ المتواتر بأخبار الآحاد. وخلافهم في هذه المسائل معروف. وممن قال: بأن الكتاب لا ينسخ إلا بالكتاب، وأن السنة لا تنسخ إلا بالسنة الشافعي رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم هو أن الكتاب والسنة كلاهما ينسخ بالآخر. لأن الجميع وحي من الله تعالى. فمثال نسخ السنة بالكتاب: نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام. فإن استقبال بيت المقدس أولا إنما وقع بالسنة لا بالقرآن، وقد نسخه الله بالقرآن في قوله: * (فلنولينك قبلة ترضاها) *. ومثال نسخ الكتاب بالسنة: نسخ آية عشر رضعات تلاوة وحكما بالسنة المتواترة. ونسخ سورة الخلع وسورة الحفد تلاوة وحكما بالسنة المتواترة. وسورة الخلع وسورة الحفد: هما القنوت في الصبح عند المالكية. وقد أوضح صاحب (الدر المنثور) وغيره تحقيق أنهما كانتا سورتين من كتاب الله ثم نسختا.
وقد قدمنا (في سورة الأنعام) أن الذي يظهر لنا أنه الصواب: هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه، وأنه لا معارضة بينهما. لأن المتواتر حق، والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئا جديدا لم يكن موجودا قبل، فلا معارضة بينهما البتة لاختلاف زمنهما.
فقوله تعالى: * (قل لا أجد فى مآ أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة) *.