أضواء البيان - الشنقيطي - ج ١ - الصفحة ٣٨٠
في قوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * وطرف يكون فيه غير شرع لنا إجماعا وهو أمران:
أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلا أنه كان شرعا لمن قبلنا كالمتلقي من الإسرائيليات لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن تصديقهم وتكذيبهم فيها وما نهانا صلى الله عليه وسلم عن تصديقه لا يكون مشروعا لنا إجماعا.
والثاني: ما ثبت في شرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا وبين لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا كالآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا لأن الله وضعها عنا كما قال تعالى: * (ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم) * وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ * (ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * أن الله قال: نعم قد فعلت.
ومن تلك الآصار التي وضعها الله عنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم ما وقع لعبدة العجل حيث لم تقبل توبتهم إلا بتقديم أنفسهم للقتل كما قال تعالى: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) *.
والواسطة هي محل الخلاف بين العلماء وهي ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ولم يبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا ولا غير مشروع لنا وهو الذي قدمنا أن التحقيق كونه شرعا لنا وهو مذهب الجمهور وقد رأيت أدلتهم عليه وبه تعلم أن آية: * (وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس) * يلزمنا الأخذ بما تضمنته من الأحكام.
مع أن القرآن صرح بذلك في الجملة في قوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * وقوله: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * وفي حديث ابن مسعود المتفق عليه المتقدم التصريح بأن ما فيها من قتل النفس بالنفس مشروع لنا حيث قال صلى الله عليه وسلم: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلاه إلا الله وأني رسول اله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس الحديث.
وإلى هذا أشار البخاري في صحيحه حيث قال: باب قول الله تعالى: * (أن النفس بالنفس) * إلى قوله: * (فأولائك هم الظالمون) * ثم ذكر حديث ابن مسعود المتقدم وقال ابن حجر: والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب فالحكم الذي دلت عليه مستمر في شريعة الإسلام فهو أصل في القصاص في قتل العمد ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص أخرجه الشيخان من حديث أنس بناء على أن المراد بكتاب الله قوله تعالى * (والسن بالسن) * في هذه الآية التي نحن بصددها وعلى بقية الأقوال فلا دليل في الحديث ولم يزل العلماء يأخذون الأحكام من قصص الأمم الماضية كما أوضحنا دليله.
فمن ذلك قول المالكية وغيرهم: إن القرينة الجازمة ربما قامت مقام البينة مستدلين على ذلك بجعل شاهد يوسف شق قميصه من دبر قرينة على صدقه وكذب المرأة في قوله تعالى: * (وشهد شاهد من أهلهآ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) * فذكره تعالى لهذا مقررا له يدل على جواز العمل به ومن هنا أوجب مالك حد الخمر على من أستنكه فشم في فيه ريح الخمر لأن ريحها في فيه قرينة على شربه إياها.
وأجاز العلماء للرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها فتزفها إليه ولائد لا يثبت بقولهن أمر أن يجامعها من غير بينة على عينها أنها فلانة بنت فلان التي وقع عليها العقد اعتمادا على القرينة وتنزيلا لها منزلة البينة.
وكذلك الضيف ينزل بساحة قوم فيأتيه الصبي أو الوليدة بطعام فيباح له أكله من غير بينة تشهد على إذن أهل الطعام له في الأكل اعتمادا على القرينة.
وأخذ المالكية وغيرهم إبطال القرينة بقرينة أقوى منها من أن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب جعلوا على قميصه دم سخلة ليكون الدم على قميصه قرينة على صدقهم في أنه أكله الذئب فأبطلها يعقوب بقرينة أقوى منها وهي عدم شق
(٣٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 375 376 377 378 379 380 381 382 383 384 385 ... » »»