حميما وغساقا * جزاء وفاقا * إنهم كانوا لا يرجون حسابا * وكذبوا بآياتنا كذابا * وكل شيء أحصيناه كتابا * فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا) * ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه المكذبون، ويجحده المعاندون، أنه يوم عظيم، وأن الله جعله * (ميقاتا) * للخلق * (ينفخ في الصور فتأتون أفواجا) *، ويجري فيه من الزعازع والقلاقل ما يشيب له المولود، وتنزعج له القلوب. فتسير الجبال، حتى تكون كالهباء المبثوث، وتنشق السماء حتى تكون أبوابا، ويفصل الله بين الخلائق، بحكمه الذي لا يجور، وتوقد نار جهنم التي أرصدها الله، وأعدها للطاغين وجعلها مثوى لهم ومآبا، وأنهم يلبثون فيها أحقابا كثيرة، و (الحقب) على ما قاله كثير من المفسرين: ثمانون سنة. فإذا وردوها * (لا يذوقون فيها بردا) *، أي: لا ما يبرد جلودهم، ولا ما يدفع ظمأهم. * (إلا حميما) *، أي: ماء حارا، يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم. * (وغساقا) * وهو صديد أهل النار، الذي هو في غاية النتن، وكراهة المذاق. وإنما استحقوا هذه العقوبات الفظيعة * (جزاء وفاقا) * لهم على ما عملوا من الأعمال الموصلة إليها، لم يظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم، ولهذا ذكر أعمالهم، التي استحقوا بها هذا الجزاء، فقال: * (إنهم كانوا لا يرجون حسابا) *، أي: لا يؤمنون بالبعث، ولا أن الله يجازي الخلق، بالخير والشر، فلذلك أهملوا العمل للآخرة. * (وكذبوا بآياتنا كذابا) *، أي: كذبوا بها، تكذيبا واضحا، صريحا، وجاءتهم البينات فعاندوها. * (وكل شيء) * من قليل أو كثير، وخير وشر * (أحصيناه كتابا) *، أي: أثبتناه في اللوح المحفوظ، فلا يحسب المجرمون، أنا عذبناهم بذنوب لم يعملوها، ولا يحسبوا أنه يضيع من أعمالهم شيء، أو ينسى منها مثال ذرة. كما قال تعالى: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما علموا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) *. * (فذوقوا) * أيها المكذبون هذا العذاب الأليم، والخزي الدائم * (فلن نزيدكم إلا عذابا) *، فكل وقت وحين يزداد عذابهم. وهذه الآية أشد الآيات في شدة عذاب أهل النار، أجارنا الله منها. * (إن للمتقين مفازا * حدآئق وأعنابا * وكواعب أترابا * وكأسا دهاقا * لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا * جزاء من ربك عطاء حسابا) * لما ذكر حال المجرمين، ذكر مآل المتقين، فقال: * (إن للمتقين مفازا) *، أي: الذين اتقوا سخط ربهم، بالتمسك بطاعته، والانكفاف عن معصيته فلهم مفاز ومنجى، وبعد عن النار. وفي ذلك المفاز لهم * (حدائق) * وهي البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية بالثمار. * (وأعنابا) * تنفجر خلالها الأنهار، وخص العنب لشرفه وكثرته في تلك الحدائق. ولهم فيها زوجات على مطالب النفوس * (كواعب) *، وهي النواهد، اللاتي لم ينكسر ثديهن من شبابهن وقوتهن ونضارتهن. * (أترابا) *، أي: على سن واحد متقارب. ومن عادة الأتراب أن يكن متآلفات، متعاشرات، وذلك السن الذي هن فيه ثلاث وثلاثون سنة، أعدل ما يكون من الشباب. * (وكأسا دهاقا) *، أي: مملوءة من رحيق، لذة للشاربين. * (لا يسمعون فيها لغوا) *، أي: كلاما لا فائدة فيه * (ولا كذابا) *، أي: إثما. كما قال تعالى: * ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما) *. وإنما أعطاهم الله هذا الثواب الجزيل من فضله وإحسانه * (جزاء من ربك عطاء حسابا) *، أي: بسبب أعمالهم التي وفقهم الله لها، وجعلها سببا للوصول إلى كرامته.
(٩٠٧)