تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٩٠٩
وأذهل أفئدتهم الفزع، وغلب عليهم التأسف، واستولت عليهم الحسرة. * (يقولون) * أي: منكرو البعث في الدنيا استهزاء وإنكارا للبعث: * (أإنا لمردودون في الحافرة) *، أي: أنرد بعد الموت إلى الخلقة الأولى؟ استفهام إنكاري مشتمل على غاية التعجب، ونهاية الاستغراب، أنكروا البعث، ثم ازدادوا استبعادا فاستمروا. يقولون، أي: الكفار في الدنيا، على وجه التكذيب: * (أإذا كنا عظاما نخرة) *، أي: بالية فتاتا. والمعنى: (أنرد إلى الحياة بعد أن صرنا عظاما وهي رميم؟). * (قالوا تلك إذا كرة خاسرة) *، أي: استبعدوا أن يبعثهم الله، ويعيدهم بعدما كانوا عظاما نخرة، جهلا منهم بقدرة الله، وتجرؤا عليه. قال الله في بيان سهولة هذا الأمر عليه: * (فإنما هي زجرة واحدة) *، ينفخ في الصور. * (فإذا هم) *، أي: الخلائق كلهم * (بالساهرة) *، أي: على وجه الأرض، قيام ينظرون، فيجمعهم الله، ويقضي بينهم، بحكمه العدل، ويجازيهم. * (هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى * اذهب إلى فرعون إنه طغى * فقل هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى * فأراه الآية الكبرى * فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) * يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: * (هل أتاك حديث موسى) *، وهذا الاستفهام عن أمر عظيم متحقق وقوعه. أي: هل أتاك حديثه * (إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى) * وهو المحل الذي كلمه الله فيه، وامتن عليه بالرسالة، وابتعثه بالوحي، واجتباه فقال له: * (اذهب إلى فرعون إنه طغى) *، أي: فانهه عن طغيانه، وشركه، وعصيانه، بقول لين، وخطاب لطيف لعله * (يتذكر أو يخشى) * * (فقل) * له: * (هل لك إلى أن تزكى) *، أي: هل لك في خصلة حميدة، ومحمدة جميلة، يتنافس فيها أولو الألباب، وهي أن تزكي نفسك، وتطهرها من دنس الكفر والطغيان، إلى الإيمان والعمل الصالح؟ * (وأهديك إلى ربك) *، أي: أدلك عليه، وأبين لك مواقع رضاه، من مواقع سخطه. * (فتخشى) * الله، إذا علمت الصراط المستقيم، فامتنع فرعون مما دعاه إليه موسى. * (فأراه الآية الكبرى) *، أي: جنس الآية الكبرى، فلا ينافي تعددها * (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) *. * (فكذب) * بالحق * (وعصي) * الأمر، * (ثم أدبر يسعى) *، أي: يجتهد في مبارزة الحق. * (فحشر) * جنوده أي: جمعهم * (فنادى فقال) * لهم: * (أنا ربكم الأعلى) * فأذعنوا له، وأقروا بباطله، حين استخفهم. * (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) * أي: جعل الله عقوبته، دليلا وزاجرا، ومبينة لعقوبة الدنيا والآخرة. * (إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) *، فإن من يخشى الله، هو الذي ينتفع بالآيات والعبر. فإذا رأى عقوبة فرعون، عرف أن من تكبر وعصى، وبارز الملك الأعلى، يعاقبه في الدنيا والآخرة، وأما من ترحلت خشية الله من قبله، فلو جاءته كل آية لا يؤمن بها. * (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم) * يقول تعالى مبينا دليلا واضحا لمنكري البعث، ومستبعدي إعادة الله للأجساد: * (أأنتم) * أيها البشر * (أشد خلقا أم السماء) * ذات الجرم العظيم، والخلق القوي، والارتفاع الباهر * (بناها) * الله. * (رفع سمكها) *، أي: جرمها وصورتها * (فسواها) * بإحكام وإتقان، يحير العقول، ويذهل الألباب. * (وأغطش ليلها) *، أي: أظلمه، فعمت الظلمة، جميع أرجاء السماء، فأظلم وجه الأرض. * (وأخرج ضحاها) *، أي: أظهر فيه النور العظيم، حين أتى بالشمس، فانتشر الناس في مصالح دينهم ودنياهم. * (والأرض بعد ذلك) * أي: بعد خلق السماء * (دحاها) *، أي: أودع فيها منافعها. وفسر ذلك بقوله: * (أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها) *، أي: ثبتها بالأرض. فدحى الأرض بعد خلق السماوات، كما هو نص هذه الآيات الكريمة. وأما خلق نفس الأرض، فمتقدم على خلق السماء كما قال تعالى: * (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين) * إلى أن قال: * (ثم استوى إلى السماء) *.
(٩٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 904 905 906 907 908 909 910 911 912 913 914 ... » »»