من كتب العلم، فهل يستفيد الحمار من تلك الكتب التي فوق ظهره؟ وهل تلحقه فضيلة بسبب ذلك؟ أم حظه منها حملها فقط؟ فهذا مثل علماء أهل الكتاب، الذين لم يعملوا بما في التوراة، الذي من أجله وأعظمه الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والبشارة به، والإيمان بما جاء به من القرآن، فهل استفاد من هذا وصفه، من التوراة إلا الخيبة والخسران، وإقامة الحجة عليه؟ فهذا المثل مطابق لأحوالهم. * (بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) * الدالة على صدق رسولنا وصحة ما جاء به. * (والله لا يهدي القوم الظالمين) *، أي: لا يرشدهم إلى مصالحهم، ما دام الظلم لهم وصفا، والعناد لهم نعتا. ومن ظلم اليهود وعنادهم، أنهم يعلمون أنهم على باطل، ويزعمون أنهم على حق، وأنهم أولياء الله من دون الناس. ولهذا أمر الله رسوله أن يقول لهم: إن كنتم صادقين في زعمكم، أنكم على الحق، وأولياء الله: * (فتمنوا الموت) * وهذا أمر خفيف، فإنهم لو عملوا أنهم على حق لما توقفوا عن هذا التحدي الذي جعله الله دليلا على صدقهم إن تمنوه، وكذبهم إن لم يتمنوه. ولما لم يقع منهم، مع الإعلان لهم بذلك، علم أنهم عالمون ببطلان ما هم عليه وفساده، ولهذا قال: * (ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم) *، أي: من الذنوب والمعاصي، التي يستوحشون من الموت من أجلها. * (والله عليهم بالظالمين) * فلا يمكن أن يخفى عليه من ظلمهم شيء. هذا وإن كانوا لا يتمنون الموت بما قدمت أيديهم، بل يفرون منه غاية الفرار، فإن ذلك لا ينجيهم، بل لا بد أن يلاقيهم الموت الذي قد حتمه الله على العباد. ثم بعد الموت واستكمال الآجال، يرد الخلق كلهم يوم القيامة، إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئهم بما كانوا يعملون، من خير وشر، قليل وكثير. * (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) * يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلاة الجمعة، والمبادرة إليها من حين ينادى إليها والسعي إليها، والمراد بالسعي هنا: المبادرة والاهتمام، وجعلها أهل الأشغال: لا البيع الذي قد نهى عنه عند المضي إلى الصلاة. وقوله: * (وذروا البيع) *، أي: اتركوا البيع، إذا نودي للصلاة وامضوا إليها. فإن * (ذلكم خير لكم) * من اشتغالكم بالبيع، أو تفويتكم لصلاة الفريضة، التي هي من آكد الفروض. * (إن كنتم تعلمون) *، أي: ما عند الله خير وأبقى، وأن من آثر الدنيا على الدين، فقد خسر الخسارة الحقيقية، من حيث يظن أنه يربح، وهذا الأمر بترك البيع، مؤقت مدة الصلاة. * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) * لطلب المكاسب والتجارات، ولما كان الاشتغال بالتجارة، مظنة الغفلة عن ذكر الله، أمر الله بالإكثار من ذكره، لينجبر بهذا، فقال: * (واذكروا الله كثيرا) *، أي: في حال قيامكم وقعودكم، وعلى جنوبكم. * (لعلكم تفلحون) *، فإن الإكثار من ذكر الله أكبر أسباب الفلاح. * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) *، أي: خرجوا من المسجد، حرصا على ذلك اللهو، وتلك التجارة، وتركوا الخير * (وتركوك قائما) * تخطب الناس، وذلك في يوم الجمعة بينما البني صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، إذ قدم المدينة، عير تحمل تجارة، فلما سمع الناس بها، وهم في المسجد، انفضوا من المسجد، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب استعجالا لما لا ينبغي أن يستعجل له، وترك أدب. * (قل ما عند الله) * من الأجر والثواب، لمن لازم الخير، وصبر نفسه على عبادة الله. * (خير من اللهو ومن التجارة) * التي، وإن حصل منها بعض المقاصد، فإن ذلك قليل منقض، مفوت لخير الآخرة، وليس الصبر على طاعة الله مفوتا للرزق. * (والله خير الرازقين) * فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب. وفي هذه الآيات فوائد عديدة: منها: أن الجمعة فريضة على المؤمنين، يجب عليهم السعي إليها، والمبادرة والاهتمام بشأنها. ومنها: أن الخطبتين يوم الجمعة، فريضة يجب حضورهما، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له. ومنها: مشروعية النداء للجمعة والأمر به. ومنها: النهي عن البيع والشراء بعد
(٨٦٣)