تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٣٠
عليهم، قال: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *. * (رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان) * أي: هو تعالى رب كل ما أشرقت عليه الشمس والقمر، والكواكب النيرة، وكل ما غربت عنه، وكل ما كانا فيه، فالجميع تحت تدبيره وربوبيته، وثناهما هنا، باعتبار مشارقها، شتاء وصيفا، والله أعلم. * (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان) * المراد بالبحرين: البحر العذب، والبحر المالح، فهما يلتقيان، فيصب العذب في البحر المالح، ويختلطان ويمتزجان، ولكن الله تعالى جعل بينهما برزخا من الأرض، حتى لا يبغي أحدهما على الآخر، ويحصل النفع بكل منهما. فالعذب: منه يشربون وتشرب أشجارهم وزروعهم وحروثهم، والملح: به يطيب الهواء ويتولد السمك والحوت، واللؤلؤ والمرجان، ويكون مستقرا مسخرا للسفن والمراكب، ولهذا قال: * (وله الجوار) * إلى: * (تكذبان) *. * (وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام * فبأي آلاء ربكما تكذبان) * أي: وسخر تعالى لعباده السفن والجواري، التي تمخر البحر، وتشقه بإذن الله، ينشئها الآدميون، فتكون من عظمها وكبرها، كالأعلام، وهي: الجبال العظيمة. فيركبها الناس ويحملون عليها أمتعتهم، وأنواع تجاراتهم وغير ذلك مما تدعو إليه حاجتهم وضرورتهم، وقد حفظها حافظ السماوات والأرض، وهذه من نعم الله الجليلة، ولهذا قال: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *. * (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان) * أي: كل من على الأرض، من إنس وجن، ودواب، وسائر المخلوقات، يفنى ويبيد، ويبقى الحي الذي لا يموت * (ذو الجلال والإكرام) *، أي: ذو العظمة والكبرياء والمجد الذي يعظم ويبجل، ويجل لأجله، والإكرام الذي هو سعة الفضل والجود الذي يكرم أولياءه، وخواص خلقه بأنواع الإكرام الذي يكرمه أولياؤه ويجلونه، ويعظمونه ويحبونه، وينيبون إليه ويعبدونه. * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) *. * (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان) * أي: هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، وهو واسع الجود والكرم، فكل الخلق مفتقرون إليه، يسألونه جميع حوائجهم، ومجالهم ومقالهم، ولا يستغنون عنه طرفة عين، ولا أقل من ذلك. وهو تعالى * (كل يوم هو في شأن) * يغني فقيرا، ويجبر كسيرا، ويعطي قوما، ويمنع آخرين، ويميت ويحيي، ويخفض ويرفع، لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين، ولا طول مسألة السائلين. فسبحان الكريم الوهاب، الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات، وعم لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه. وهذه الشؤون التي أخبر أنه كل يوم هو في شأن، هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها، لا يزال تعالى يمضيها وينفذها في أوقاتها، التي اقتضتها حكمته، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر والنهي، والقدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار. حتى إذا تمت هذه الخليقة وأفناهم الله تعالى، وأراد أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء، ويريهم من عدله وفضله، وكثرة إحسانه، ما به يعرفونه، ويوحدونه، نقل المكلفين من دار الابتلاء والامتحان، إلى دار الحيوان. * (سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان) * وفرغ حينئذ لتنفيذ هذه الأحكام، التي جاء وقتها، وهو المراد بقوله: * (سنفرغ) *، إلى: * (تكذبان) *. أي: سنفرغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم التي عملتموها في دار الدنيا. * (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان) * أي: إذا جمعهم الله في موقف القيامة، أخبرهم بعجزهم وضعفهم، وكمال سلطانه، ونفوذ مشيئته وقدرته، فقال معجزا لهم: * (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض) *، أي: تجدون مسلكا ومنفذا، تخرجون به عن ملك الله وسلطانه. * (فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) *، أي: لا تخرجون منه إلا بقوة، وتسلط منكم، وكمال قدرة، وأنى لهم ذلك، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة، ولا نشورا؟ ففي ذلك الموقف لا يتكلم أحد إلا بإذنه، ولا تسمع إلا همسا، وفي ذلك الموقف يستوي الملوك والمماليك، والرؤساء والمرءوسون، والأغنياء والفقراء.
(٨٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 824 825 827 828 829 830 831 832 833 834 835 ... » »»