وعمرناهم عمرا، يتذكر فيه من تذكر، ويتعظ فيه المهتدي، أي: ولقد مكنا عادا، كما مكناكم يا هؤلاء المخاطبون، أي: فلا تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم، وأنه سيدفع عنكم من عذاب الله شيئا، بل غيركم أعظم منكم تمكينا، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم، ولا جنودهم من الله شيئا. * (وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة) *، أي: لا قصور في أسماعهم، ولا أبصارهم، ولا أذهانهم، حتى يقال: إنهم تركوا الحق جهلا منهم، وعدم تمكن من العلم به، ولا خلل في عقولهم، ولكن التوفيق بيد الله. * (فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء) * لا قليل ولا كثير. * (إذ كانوا يجحدون بآيات الله) * الدالة على توحيده وإفراده بالعبادة. * (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) *، أي: نزل بهم العذاب، الذي يكذبون بوقوعه، ويستهزئون بالرسل الذين حذروهم منه. * (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون) * يحذر تعالى مشركي العرب وغيرهم، بإهلاك الأمم المكذبين، الذين هم حول ديارهم، بل كثير منهم في جزيرة العرب، كعاد وثمود ونحوهم، وأن الله تعالى صرف لهم الآيات، أي: نوعها من كل وجه. * (لعلهم يرجعون) * عما هم عليه من الكفر والتكذيب. فلما لم يؤمنوا أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ولم تنفعهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء، ولهذا قال هنا: * (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة) *، أي: يتقربون إليهم، ويتألهونهم لرجاء نفعهم. * (وذلك إفكهم وما كانوا يفترون) * من الكذب، الذي يمنون به أنفسهم، حيث يزعمون أنهم على الحق، وأن أعمالهم ستنفعهم، فضلت وبطلت. * (وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يقومنآ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يقومنآ أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أول ئك في ضلال مبين) * كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، إنسهم وجنهم، وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة. فالإنس يمكنه، عليه الصلاة والسلام، دعوتهم وإنذارهم، وأما الجن، فصرفهم الله إليه بقدرته، وأرسل إليه * (نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا) *، وصى بعضهم بعضا بذلك. * (فلما قضى) * وقد وعوه، وأثر ذلك فيهم * (ولوا إلى قومهم منذرين) * نصحا منهم لهم، وإقامة للحجة عليهم، وقيضهم الله، معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن. * (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى) * لأن كتاب موسى أصل للإنجيل، وعمدة لبني إسرائيل في أحكام الشرع، وإنما الإنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الأحكام. * (مصدقا لما بين يديه يهدي) *، هذا الكتاب الذي سمعناه * (إلى الحق) * وهو: الصواب في كل مطلوب وخبر * (وإلى طريق مستقيم) * موصل إلى الله، وإلى جنته، من العلم بالله، وبأحكامه الدينية، وأحكام الجزاء. فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته، دعوهم إلى الإيمان به، فقالوا: * (يا قومنا أجيبوا داعي الله) *، أي: الذي لا يدعو إلا إلى ربه، لا يدعوكم إلى غرض من أغراضه، ولا هوى، وإنما يدعوكم إلى ربكم، ليثيبكم، ويزيل عنكم كل شر ومكروه، ولهذا قالوا: * (وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) *، وإذا أجارهم من العذاب الأليم، فما ثم بعد ذلك إلا النعيم، فهذا جزاء من أجاب داعي الله. * (ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض) * فإن الله على كل شيء قدير، فلا يفوته هارب، ولا يغالبه مغالب. * (وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين) *، وأي ضلال أبلغ من ضلال من نادته الرسل، ووصلت إليه النذر بالآيات البينات، والحجج المتواترات، فأعرض واستكبر؟ * (أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي ي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير) * هذا استدلال منه تعالى على الإعادة بعد الموت، بما هو أبلغ منها، وهو: أنه الذي خلق السماوات والأرض، على عظمهما وسعتهما، وإتقان خلقهما، من دون أن يكترث بذلك، ولم يعي بخلقهن. فكيف تعجزه إعادتكم بعد موتكم، وهو على كل شيء قدير؟ * (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس ه ذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * فاصبر كما صبر أولوا العزم
(٧٨٣)