يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي ومآ أنا إلا نذير مبين * قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) * * (وإذا تتلى عليهم) *، أي: على المكذبين * (آياتنا بينات) * بحيث تكون على وجه، لا يمترى بها، ولا يشك في وقوعها وحقها، لم تفدهم خيرا، بل قامت عليهم بذلك الحجة. ويقولون من إفكهم وافترائهم * (للحق لما جاءهم هذا سحر مبين) *، أي: ظاهر لا شك فيه، وهذا من باب قلب الحقائق، الذي لا يروج إلا على ضعفاء العقول، وإلا فبين الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين السحر من المنافاة والمخالفة، أعظم مما بين السماء والأرض. وكيف يقاس الحق الذي علا وارتفع ارتفاعا على الأفلاك، وفاق بضوئه ونوره نور الشمس، وقامت الأدلة الأفقية والنفسية عليه، وأقرت به وأذعنت، أولو البصائر والعقول الرزينة، كيف يقاس الحق الذي هذا شأنه بالباطل الذي هو السحر، الذي لا يصدر إلا من ضال ظالم خبيث النفس، خبيث العمل؟ فهو مناسب له وموافق لحاله، وهل هذا إلا من البهرجة؟ * (أم يقولون افتراه) *، أي: افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه، فليس هو من عند الله. * (قل) * (لهم) * (إن افتريته) * فالله علي قادر وبما تفيضون فيه عالم، فكيف لم يعاقبني على افترائي، الذي زعمتم؟ * (فلا تملكون لي من الله شيئا) * إن أرادني الله بضر، أو أرادني برحمة * (هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم) * فلو كنت متقولا عليه، لأخذ مني باليمين، ولعاقبني عقابا يراه كل أحد، لأن هذا أعظم أنواع الافتراء لو كنت متقولا. ثم دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحق ومخاصمته، فقال: * (وهو الغفور الرحيم) *، أي: فتوبوا إليه، وأقلعوا عما أنتم فيه، يغفر لكم ذنوبكم، ويرحمكم، فيوفقكم للخير، ويثيبكم جزيل الأجر. * (قل ما كنت بدعا من الرسل) *، أي: لست بأول رسول جاءكم، حتى تستغربوا رسالتي وتستنكروا دعوتي، فقد تقدم من الرسل والأنبياء من وافقت دعوتي دعوتهم، فلأي شيء تنكرون رسالتي؟ * (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) *، أي: لست إلا بشرا، ليس بيدي من الأمر شيء، والله تعالى المتصرف بي وبكم، الحاكم علي وعليكم. * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * ولست آتي بالشيء من عندي، * (وما أنا إلا نذير مبين) *، فإن قبلتم رسالتي، وأجبتم دعوتي، فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والآخرة، وإن رددتم ذلك علي، فحسابكم على الله، وقد أنذرتكم، ومن أنذر فقد أعذر. * (قل أرأيتم إن كان من عند الله، وكفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم) *، أي: أخبروني، لو كان هذا القرآن من عند الله، وشهد على صحته الموفقون من أهل الكتاب، الذين عندهم من الحق ما يعرفون أنه الحق، فآمنوا به واهتدوا، فتطابقت أنباء الأنبياء وأتباعهم النبلاء، واستكبرتم، أيها الجهلاء الأغبياء، فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشد الكفر؟ * (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) *، ومن الظلم الاستكبار عن الحق بعد التمكن منه. * (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونآ إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون ه ذآ إفك قديم * ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وه ذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) * أي: قال الكفار بالحق معاندين له، ورادين لدعوته: * (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) *، أي: ما سبقنا إليه المؤمنون، وكنا أول مبادر به، وسابق إليه، وهذا من البهرجة في مكان. فأي دليل يدل على أن علامة الحق سبق المكذبين به للمؤمنين؟ هل هم أزكى نفوسا؟ أم أكمل عقولا؟ أم الهدى بأيديهم؟ ولكن هذا الكلام الذي صدر منهم، يعزون به أنفسهم بمنزلة من لم يقدر على الشيء، ثم طفق يذمه، ولهذا قال: * (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم) *، أي: هذا السبب الذي دعاهم إليه، أنهم لما لم يهتدوا بهذا القرآن، وفاتهم أعظم المواهب، وأجل الرغائب، قدحوا فيه، بأنه كذب، وهو الحق الذي لا شك فيه، ولا امتراء يعتريه. * (و) * قد وافق الكتب السماوية * (من قبله) * خصوصا، أكملها وأفضلها بعد القرآن، وهي التوراة * (كتاب موسى إماما ورحمة) *، أي: يقتدي بها بنو إسرائيل، ويهتدون بها، ويحصل لهم خير الدنيا والآخرة. * (وهذا) * (القرآن) * (كتاب مصدق) * للكتب السابقة، شهد بصدقها، وصدقها، بموافقته لها، وجعله الله * (لسانا عربيا) * ليسهل تناوله، ويتيسر تذكره. * (لينذر الذين ظلموا) * أنفسهم بالكفر والفسوق والعصيان، إن استمروا على ظلمهم بالعذاب الوبيل. * (وبشرى للمحسنين) * في عبادة الخالق، وفي نفع المخلوقين، بالثواب الجزيل، وفي الدنيا والآخرة، ويذكر الأعمال التي ينذر عنها، والأعمال التي يبشر بها. * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أول ئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون) * أي: إن الذين أقروا بربهم، وشهدوا له بالوحدانية، والتزموا طاعته
(٧٨٠)