حيث اقترحوا هذا الاقتراح، وزعموا أن صدق رسل الله، متوقف على الإتيان بآبائهم، وأنهم لو جاؤوهم بكل آية لم يؤمنوا، إلا إن اتبعتهم الرسل على ما قالوا. وهم كذبة فيما قالوا، وإنما قصدهم دفع دعوة الرسل، لا بيان الحق، قال تعالى: * (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * وإلا فلو وصل العلم باليوم الآخر إلى قلوبهم، لعملوا له أعمالا وتهيؤوا له. * (ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون * وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * ه ذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين * وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين * وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين * وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم ه ذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين * ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون * فلله الحمد رب السماوت ورب الأرض رب العالمين * وله الكبريآء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) * يخبر تعالى عن سعة ملكه، وانفراده بالتصرف والتدبير، في جميع الأوقات، وأنه * (يوم تقوم الساعة) * ويجمع الخلائق لموقف القيامة، يحصل الخسار على المبطلين، الذين أتوا بالباطل، ليدحضوا به الحق، وكانت أعمالهم باطلة، لأنها متعلقة بالباطل، فبطلت في يوم القيامة، اليوم الذي تستبين فيه الحقائق واضمحلت عنهم، وفاتهم الثواب، وحصلوا على أليم العقاب. ثم وصف تعالى شدة يوم القيامة وهوله ليحذره الناس، ويستعد له العباد، فقال: * (وترى) * أيها الرائي لذلك اليوم * (كل أمة جاثية) * على ركبها خوفا وذعرا، وانتظارا لحكم الملك الرحمن. * (كل أمة تدعى إلى كتابها) *، أي: إلى شريعة نبيهم، الذي جاءهم من عند الله، وهل قاموا بها فيحصل الثواب والنجاة؟ أم ضيعوها، فيحصل لهم الخسران. * (اليوم تجزون بما كنتم تعملون) * فأمة موسى يدعون إلى شريعة موسى، وأمة عيسى كذلك، وأمة محمد كذلك، وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت به. هذا أحد الاحتمالات في الآية، وهو معنى صحيح في نفسه، غير مشكوك فيه، ويحتمل أن المراد بقوله: * (كل أمة تدعى إلى كتابها) *، أي: إلى كتاب أعمالها، وما سطر عليها، من خير وشر، وأن كل أحد يجازي بما عمله بنفسه، كقوله تعالى: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) *. ويحتمل أن المعنيين كليهما، مراد من الآية، ويدل على هذا قوله: * (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) *، أي: هذا كتابنا الذي أنزلنا عليكم، يفصل بالحق الذي هو العدل * (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) * فهذا كتاب الأعمال. ولهذا فصل ما يفعل الله بالفريقين فقال: * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * إيمانا صحيحا، وصدقوا إيمانهم بالأعمال الصالحة، من واجبات ومستحبات * (فيدخلهم ربهم في رحمته) * التي محلها الجنة، وما فيها من النعيم المقيم، والعيش السليم. * (ذلك هو الفوز المبين) *، أي: المفاز والنجاة والربح، والفلاح الواضح البين الذي إذا حصل للعبد، حصل له كل خير، واندفع عنه كل شر. * (وأما الذين كفروا) * بالله، فيقال لهم توبيخا وتقريعا: * (أفلم تكن آياتي تتلى عليكم) * وقد دلتكم على ما فيه صلاحكم، ونهتكم عما فيه ضرركم، وهي أكبر نعمة وصلت إليكم، لو وفقتم لها. * (فاستكبرتم) * عنها، وأعرضتم، وكفرتم بها، فجنيتم أكبر جناية، وأجرمتم أشد الجرم، فاليوم تجزون ما كنتم تعملون. ويوبخون أيضا بقوله: * (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم) * منكرين لذلك: * (ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) *. فهذه حالهم في الدنيا، وحال البعث الإنكار له، وردوا قول من جاء به، قال تعالى: * (وبدا لهم سيئات ما عملوا) *، أي: وظهر لهم يوم القيامة عقوبات أعمالهم. * (وحاق بهم) *، أي: نزل * (ما كانوا به يستهزئون) *، أي: نزل بهم العذاب، الذي كانوا في الدنيا، يستهزؤون بوقوعه، وبمن جاء به. * (وقيل اليوم ننساكم) *، أي: نترككم في العذاب * (كما نسيتم لقاء يومكم هذا) *، فإن الجزاء من جنس العمل * (ومأواكم النار) *، أي: هي مقركم ومصيركم. * (وما لكم من ناصرين) * ينصرونكم من عذاب الله، ويدفعون عنكم عقابه. * (ذلكم) * الذي حصل لكم من العذاب * (ب) * سبب * (أنكم اتخذتم آيات الله هزوا) * مع أنها موجبة للجد والاجتهاد، وتلقيها بالسرور والاستبشار والفرح. * (وغرتكم الحياة الدنيا) * بزخارفها ولذاتها وشهواتها، فاطمأنتم إليها، وعملتم لها، وتركتم العمل للدار الباقية. * (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون) *، أي: ولا يمهلون، ولا يردون إلى الدنيا ليعملوا صالحا. * (فلله الحمد) * كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه * (رب السماوات ورب الأرض رب العالمين) *، أي: له الحمد على ربوبيته لسائر الخلق، حيث خلقهم ورباهم، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة. * (وله الكبرياء في السماوات والأرض) *، أي: له الجلال والعظمة والمجد. فالحمد فيه الثناء على الله بصفات الكمال، ومحبته تعالى وإكرامه،
(٧٧٨)