تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٧٢
الذي يكون في ليلة القدر، أحدى الكتابات التي تكتب وتميز، فتطابق الكتاب الأول، الذي كتب الله به مقادير الخلائق، وآجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، وأموالهم. ثم إن الله تعالى، قد وكل ملائكة تكتب ما سيجري على العبد، وهو في بطن أمه، ثم وكلهم بعد خروجه إلى الدنيا، وكل به كراما كاتبين، يكتبون ويحفظون عليه أعماله، ثم إنه تعالى يقدر في ليلة القدر، ما يكون في السنة. وكل هذا من تمام علمه وكمال حكمته، وإتقان حفظه، واعتنائه تعالى بخلقه * (أمرا من عندنا) *، أي: هذا الأمر الحكيم، أمر صادر من عندنا. * (إنا كنا مرسلين) * للرسل ومنزلين للكتب، والرسل تبلغ أوامر المرسل وتخبر بأقداره، * (رحمة من ربك) *، أي: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب، التي أفضلها القرآن، رحمة من رب العباد بالعباد، فما رحم الله عباده برحمة، أجل من هدايتهم بالكتب والرسل. وكل خير ينالونه في الدنيا والآخرة، فإنه من أجل ذلك وسببه. * (إنه هو السميع العليم) *، أي: يسمع جميع الأصوات، ويعلم جميع الأمور الظاهرة والباطنة، وقد علم تعالى، ضرورة العباد إلى رسله وكتبه، فرحمهم بذلك، ومن عليهم، فلله تعالى الحمد والمنة، والإحسان. * (رب السماوات والأرض وما بينهما) *، أي: خالق ذلك ومدبره، والمتصرف فيه بما شاء. * (إن كنتم موقنين) *، أي: عالمين بذلك علما مفيدا لليقين، فاعلموا أن الرب للمخلوقات، هو إلهها الحق، ولهذا قال: * (لا إله لا هو) *، أي: لا معبود إلا وجهه، * (يحيي ويميت) *، أي: هو المتصرف وحده بالإحياء والإماتة، وسيجمعكم بعد موتكم فيجزيكم بعملكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. * (ربكم ورب آبائكم الأولين) *، أي: رب الأولين والآخرين، مربيهم بالنعم، الدافع عنهم النقم. فلما قرر تعالى ربوبيته وألوهيته، بما يوجب العلم التام، ويدفع الشك، أخبر أن الكافرين مع هذا البيان * (في شك يلعبون) *، أي: منغمرون في الشكوك والشبهات، غافلون عما خلقوا له، قد اشتغلوا باللعب الباطل، الذي لا يجدي عليهم إلا الضرر. * (فارتقب) *، أي: انتظر فيهم العذاب، فإنه قد قرب وآن أوانه، * (يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس) *، أي: يعمهم ذلك الدخان، ويقال لهم: * (هذا عذاب أليم) *. واختلف المفسرون في المراد بهذا الدخان، فقيل: إنه الدخان الذي يغشى الناس ويعمهم، حين تقرب النار من المجرمين في يوم القيامة وأمر نبيه أن ينتظر بهم ذلك اليوم. ويؤيد هذا المعنى، أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأني بهم، وترهيبهم بذلك اليوم وعذابه، وتسلية الرسول والمؤمنين بالانتظار، بمن آذاهم. ويؤيده أيضا، أنه قال في هذه الآية: * (أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين) * وهذا يقال يوم القيامة للكفار، حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا، فيقال: قد ذهب وقت الرجوع. وقيل: إن المراد بذلك، ما أصاب كفار قريش حين امتنعوا من الإيمان، واستكبروا على الحق، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، فأرسل الله عليهم الجوع العظيم، حتى أكلوا الميتات والعظام، وصاروا يرون الذي بين السماء والأرض كهيئة الدخان وليس به، وذلك من شدة الجوع. فيكون على هذا قوله: * (يوم تأتي السماء بدخان) * أن ذلك بالنسبة إلى أبصارهم، وما يشاهدون، وليس بدخان حقيقة. ولم يزالوا بهذه الحالة حتى استرحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يدعو الله لهم، أن يكشفه الله عنهم، فكشفه الله عنهم، وعلى هذا فيكون قوله: * (إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون) * إخبار بأن الله سيصرفه عنهم، وتوعد لهم أن يعودوا إلى الاستكبار والتكذيب، وإخبار بوقوعه فوقع، وأن الله سيعاقبهم بالبطشة الكبرى، قالوا: وهي وقعة (بدر) وفي هذا القول نظر ظاهر. وقيل: إن المراد بذلك، أن ذلك من أشراط الساعة، وأنه يكون في آخر الزمان، دخان يأخذ بأنفاس الناس، ويصيب المؤمنين معه كهيئة الدخان. والقول هو الأول. وفي الآية احتمال أن المراد بقوله: * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون) * أن هذا كله يوم القيامة. وأن قوله تعالى: * (إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون * يوم نبطش البطشة الكبرى
(٧٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 767 768 769 770 771 772 773 774 775 776 777 ... » »»