تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٠٥
ينذرونهم من غيهم وضلالهم * (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) * كانت عاقبتهم الهلاك، والخزي، والفضيحة. فليحذر هؤلاء أن يستمروا على ضلالهم، فيصيبهم مثل ما أصابهم. ولما كان المنذرون ليسوا كلهم ضالين، بل منهم من آمن، وأخلص الدين لله، استثناهم الله من الهلاك فقال: * (إلا عباد الله المخلصين) * أي: الذين أخلصهم الله، وخصهم برحمته لإخلاصهم، فإن عواقبهم صارت حميدة. * (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين) * ثم ذكر نموذجا من عواقب الأمم المكذبين فقال: * (ولقد نادانا نوح) * إلى * (ثم أغرقنا الآخرين) *. يخبر تعالى عن عبده ورسوله، نوح عليه السلام، أول الرسل. أنه لما دعا قومه إلى الله تلك المدة الطويلة، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا، أنه نادى ربه فقال: * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * الآية. وقال: * (رب انصرني على القوم المفسدين) *. فاستجاب الله له، ومدح تعالى نفسه فقال: * (فلنعم المجيبون) * لدعاء الداعين، وسماع تبتلهم وتضرعهم. أجابه إجابة، طابقت ما سأل، فنجاه وأهله من الكرب، العظيم، وأغرق جميع الكافرين، وأبقى نسله وذريته متسلسلين، فجميع الناس من ذرية نوح عليه السلام. وجعل له ثناء حسنا مستمرا إلى وقت الآخرين، وذلك لأنه محسن في عبادة الخالق، محسن إلى الخلق. وهذه سنته تعالى في المحسنين، أن ينشر لهم من الثناء، على حسب إحسانهم. ودل قوله: * (إنه من عبادنا المؤمنين) * أن الإيمان أرفع منازل العباد وأنه مشتمل على جميع شرائع الدين، وأصوله، وفروعه، لأن الله مدح به خواص خلقه. * (وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلب سليم * إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون * أإفكا آلهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين * فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم * فتولوا عنه مدبرين * فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا باليمين * فأقبلوا إليه يزفون * قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون * قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم * فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين * وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين * رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يبني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يإبراهيم * قد صدقت الرؤيآ إنا كذلك نجزي المحسنين * إن ه ذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) * أي: وإن من شيعة نوح عليه السلام، ومن هو على طريقته في النبوة والرسالة، ودعوة الخلق إلى الله، وإجابة الدعاء، وإبراهيم الخليل عليه السلام. * (إذا جاء ربه بقلب سليم) * من الشرك والشبه، والشهوات المانعة من تصور الحق، والعمل به. وإذا كان قلب العبد سليما، سلم من كل شر، وحصل له كل خير. ومن سلامته، أنه سليم من غش الخلق وحسدهم، وغير ذلك من مساوىء الأخلاق، ولهذا نصح الخلق في الله، وبدأ بأبيه وقومه فقال: * (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون) * هذا استفهام على وجه الإنكار، وإلزام لهم بالحجة. * (أإفكا آلهة دون الله تريدون) * أي: أتعبدون من دون الله آلهة كذبا، ليست بآلهة، ولا تصلح للعبادة، فما ظنكم برب العالمين، أن يفعل بكم وقد عبدتم معه غيره؟ وهذا ترهيب لهم بالجزاء بالعقاب، على الإقامة على شركهم. * (فما ظنكم برب العالمين) * أي: وما الذي ظننتم برب العالمين، من النقص حتى جعلتم له أندادا وشركاء. فأراد عليه السلام، أن يكسر أصنامهم، ويتمكن من ذلك، فانتهز الفرصة في حين غفلة منهم، لما ذهبوا إلى عيد من أعيادهم، فخرج معهم * (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) *. في الحديث الصحيح: (لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات: فوله: * (إني سقيم) * وقوله: * (بل فعله كبيرهم هذا) *، وقوله عن زوجته (إنها أختي). والقصد أنه تخلف عنهم، ليتم له الكيد بآليتهم * (ف) * لهذا * (تولوا عنه مدبرين) * فوجد الفرصة. * (فراغ إلى آلهتهم) * أي: أسرع إليها على وجه الخفية والمراوغة. * (فقال) * متهكما بها * (ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون) * أي: فكيف يليق أن تعبد، وهي أنقص من الحيوانات، التي تأكل وتكلم؟ وهذه جمادات لا تأكل ولا تكلم. * (فراغ عليهم ضربا باليمين) * أي: جعل يضربها بقوته ونشاطه، حتى جعلها جذاذا، إلا كبيرا لهم، لعلهم إليه يرجعون. * (فأقبلوا إليه يزفون) * أي: يسرعون ويهرعون، ويريدون أن يوقعوا به، بعدما بحثوا وقالوا: * (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) *. وقيل لهم: * (سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) * يقول: * (تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) * فوبخوه ولاموه، فقال: * (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون * قال أتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم ولا يضركم) * الآية. و * (قال) * هنا: * (أتعبدون ما تنحتون) * أي: تنحتونه بأيديكم وتصنعونه؟ فيكف تعبدونهم، وأنتم الذين صنعتموهم، وتتركون الإخلاص لله؟ * (والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا) * أي: عاليا مرتفا، وأوقدوا فيه النار
(٧٠٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 700 701 702 703 704 705 706 707 708 709 710 ... » »»