ينزفون * وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنهن بيض مكنون) * يقول تعالى: * (إلا عباد الله المخلصين) * فإنهم غير ذائقي العذاب الأليم، لأنهم أخلصوا الله أعمال، فأخلصهم، واختصهم برحمته، وجاد عليهم بلطفه. * (أولئك لهم رزق معلوم) * أي: غير مجهول، وإنما هو رزق عظيم جليل، لا يجهل أمره، ولا يبلغ كنهه. فسره بقوله: * (فواكه) * من جميع أنواع الفواكه، التي تتفكه بها النفس، للذتها في لونها وطعمها. * (وهم مكرمون) * لا مهانون محتقرون، بل معظمون مبجلون موقرون. قد أكرم بعضهم بعضا، وأكرمتهم الملائكة الكرام، وصاروا يدخلون عليها من كل باب، ويهنئونهم ببلوغ أهنأ الثواب. وأكرمهم أكرم الأكرمين، وجاد عليهم بأنواع الكرامات، من نعيم القلوب والأرواح والأبدان. * (في جنات النعيم) * أي: الجنات، التي النعيم وصفها، والسرور نعتها. وذلك لما جمعته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وسلمت من كل ما يخل بنعيمها، من جميع المكدرات والمنغصات. ومن كرامتهم عند ربهم، وإكرام بعضهم بعضا، أنهم على * (سرر) * وهي المجالس المرتفعة، المزينة بأنواع الأكسية الفاخرة، المزخرفة المجملة، فهم متكئون عليها، على وجه الراحة والطمأنينة، والفرح، * (متقابلين) * فيما بينهم، ونعموا باجتماع بعضهم مع بعض. فإن مقابلة وجوههم، تدل على تقابل قلوبهم، وتأدب بعضهم مع بعض فلم يستدبره، أو يجعله إلى جانبه. بل من كمال السرور والأدب، ما دل عليه ذلك التقابل. * (يطاف عليهم بكأس من معين) * أي: يتردد الولدان المستعدون لخدمتهم عليهم، بالأشربة اللذيذة، بالكاسات الجميلة المنظر، المترعة من الرحيق المختوم بالمسك، وهو كاسات الخمر. وتلك الخمر، تخالف خمر الدنيا من كل وجه، فإنها في لونها * (بيضاء) * من أحسن الألوان، وفي طعمها * (لذة للشاربين) * يلتذ شاربها بها وقت شربها وبعده. وأنها سالمة * (لا فيها غول) * العقل وذهابه، ونزفه، ونزف مال صاحبها، وليس فيها صداع ولا كدر. فلما ذكر طعامهم وشربهم، ومجالسهم، وعموم النعيم وتفاصيله، داخلة في قوله: * (جنات النعيم) *. لكن فصل هذه الأشياء، لتعلم، فتشتاق النفوس إليها، ذكر أزواجهم فقال: * (وعندهم قاصرات الطرف عين) * أي: وعند أهل دار النعيم، في محلاتهم القربية، حور حسان، كاملات الأوصاف، قاصرات الطرف. إما أنها قصرت طرفها على زوجها، لعفتها، وعدم مجاوزته لغيره، ولجمال زوجها وكماله، بحيث لا تطلب في الجنة سواه، ولا ترغب إلا به. وإما لأنها قصرت طرف زوجها عليها، وذلك يدل على كمالها، وجمالها الفائق، الذي أوجب لزوجها، أن يقصر طرفه عليها. وقصر الطرف أيضا، يدل على قصر النفس والمحبة عليها. وكلا المعنيين محتمل، وكلاهما صحيح. وكل هذا، يدل على جمال الرجال والنساء في الجنة، ومحبة بعضهم بعضا، محبة لا يطمح معها أحد إلى غيره. ويدل على شدة عفتهم كلهم، وأنه لا حسد فيها ولا تباغض، ولا تشاحن وذلك لانتفاء أسبابه. * (عين) * أي: حسان الأعين جميلاتها، ملاج الحدق * (كأنهن) * أي: الحور * (بيض مكنون) * أي: مستور، وذلك من حسنهن وصفائهن وكون ألوانهن أحسن الأولوان وأبهاها، ليس فيه كدر ولا شين. * (فأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون * قال قآئل منهم إني كان لي قرين * يقول أإنك لمن المصدقين * أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرآه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن ه ذا لهو الفوز العظيم * لمثل ه ذا فليعمل العاملون) * لما ذكر تعالى نعيمهم، وتمام سرورهم، بالمآكل والمشارب، والأزواج الحسان، والمجالس الحسنة، وصف تذاكرهم فيما بينهم، ومطارحتهم للأحاديث، عن الأمور الماضية، وأنهم ما زالوا في المحادثة والتساؤل، حتى أفضى ذلك بهم، إلى أن قال قائل منهم: * (إني كان لي قرين) * في الدنيا، ينكر البعث، ويلومني على تصديقي به و * (يقول أإنك لمن المصدقين * أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون) * أي: مجازون بأعمالنا؟ أي: كيف تصدق بهذا الأمر البعيد، الذي في غاية الاستغراب، وهو أننا إذا تمزقنا، فصرنا ترابا وعظاما، أننا نبعث ونعاد، ثم نحاسب ونجازى بأعمالنا؟ أي: يقول صاحب الجنة لإخوانه: هذه قصتي، وهذا خبري، أنا وقريني. ما زلت أنا مؤمنا صادقا، وهو ما زال مكذبا منكرا للبعث، حتى متنا، ثم بعثنا. فوصلت أنا إلى ما ترون من النعيم، الذي أخبرتنا به الرسل، وهو لا شك، أنه قد وصل إلى العذاب. * (قال هل أنتم مطلعون) * لننظر إليه، فنزداد غبطة وسرورا ما نحن فيه، ويكون ذلك رأي عين؟ والظاهر من حال أهل الجنة، وسرور بعضهم
(٧٠٣)