تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٨
إليه والعبد مأمور بترك المحرمات والبعد منها غاية ما يمكنه وترك كل سبب يدعو إليها وأما الأوامر فيقول الله فيها: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) * فينهى عن مجاوزتها * (كذلك) * أي: بين [الله] لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين وأوضحها لهم أكمل إيضاح * (يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) * فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم ولو علم تحريمه لم يفعله فإذا بين الله للناس آياته لم يبق لهم عذر ولا حجة فكان ذلك سببا للتقوى (188) * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) * أي: ولا تأخذوا أموالكم أي: أموال غيركم أضافها إليهم؛ لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويحترم ماله كما يحترم ماله؛ ولأن أكله لمال غيره يجرىء غيره على أكل ماله عند القدرة ولما كان أكلها نوعين: نوعا بحق ونوعا بباطل وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل قيده تعالى بذلك ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية أو نحو ذلك ويدخل فيه أيضا أخذها على وجه المعاوضة بمعاوضة محرمة كعقود الربا والقمار كلها فإنها من أكل المال بالباطل لأنه ليس في مقابلة عوض مباح ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة ونحوها ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات والأوقاف والوصايا لمن ليس له حق منها أو فوق حقه فكل هذا ونحوه من أكل المال بالباطل فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة غلبت حجة المحق وحكم له الحاكم بذلك فإن حكم الحاكم لا يبيح محرما ولا يحلل حراما إنما يحكم على نحو مما يسمع وإلا فحقائق الأمور باقية فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ولا شبهة ولا استراحة فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة وحكم له بذلك فإنه لا يحل له ويكون آكلا لمال غيره بالباطل والإثم وهو عالم بذلك فيكون أبلغ في عقوبته وأشد في نكاله وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى: * (ولا تكن للخائنين خصيما) * (189) * (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) * يقول تعالى: * (يسألونك عن الأهلة) *: جمع هلال ما فائدتها وحكمتها؟ أو عن ذاتها * (قل هي مواقيت للناس) * أي: جعلها الله تعالى بلطفه ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلال ضعيفا في أول الشهر ثم يتزايد إلى نصفه ثم يشرع في النقص إلى كماله وهكذا ليعرف الناس بذلك مواقيت عباداتهم من الصيام وأوقات الزكاة والكفارات وأوقات الحج ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات ويستغرق أوقاتا كثيرة قال: * (والحج) * وكذلك تعرف بذلك أوقات الديون المؤجلات ومدة الإجارات ومدة العدد والحمل وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق فجعله تعالى حسابا يعرفه كل أحد من صغير وكبير وعالم وجاهل فلو كان الحساب بالسنة الشمسية لم يعرفه إلا النادر من الناس * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) * وهذا كما كان الأنصار وغيرهم من العرب إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت من أبوابها تعبدا بذلك وظنا أنه بر فأخبر الله أنه ليس ببر لأن الله تعالى لم يشرعه لهم وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله فهو متعبد ببدعة وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم التي هي قاعدة من قواعد الشرع ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب الذي قد جعل له موصلا فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينبغي أن ينظر في حالة المأمور ويستعمل معه الرفق والسياسة التي بها يحصل المقصود أو بعضه والمتعلم والمعلم ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله يحصل به مقصوده وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه
(٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 ... » »»