تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٩٠
وإن كان السبب خفيا كمن جحد دين غيره أو خانه في وديعة أو سرق منه ونحو ذلك فإنه لا يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له جمعا بين الأدلة ولهذا قال تعالى تأكيدا وتقوية لما تقدم: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * هذا تفسير لصفة المقاصة وأنها هي المماثلة في مقابلة المعتدي ولما كانت النفوس في الغالب لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي أمر تعالى بلزوم تقواه التي هي الوقوف عند حدوده وعدم تجاوزها وأخبر تعالى أنه * (مع المتقين) * أي: بالعون والنصر والتأييد والتوفيق ومن كان الله معه حصل له السعادة الأبدية ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه وخذله فوكله إلى نفسه فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد (195) * (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) * يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله وهي كل طرق الخير من صدقة على مسكين أو قريب أو أنفاق على من تجب مؤنته وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله فإن النفقة فيه جهاد بالمال وهو فرض كالجهاد بالبدن وفيها من المصالح العظيمة الإعانة على تقوية المسلمين وعلى توهية الشرك وأهله وعلى إقامة دين الله وإعزازه فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة فالنفقة له كالروح لا يمكن وجوده بدونها وفي ترك الإنفاق في سبيل الله إبطال للجهاد وتسليط للأعداء وشدة تكالبهم فيكون قوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * كالتعليل لذلك والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة فمن ذلك ترك الجهاد في سبيل الله أو النفقة فيه الموجب لتسلط الأعداء ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف أو محل مسبعة أو حيات أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك فهذا ونحوه ممن ألقى بيده إلى التهلكة ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة الإقامة على معاصي الله واليأس من التوبة ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض التي تركها هلاك للروح والدين ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان أمر بالإحسان عموما فقال: * (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) * وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان لأنه لم يقيده بشيء دون شيء فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم ويدخل فيه الإحسان بالجاه بالشفاعات ونحو ذلك ويدخل في ذلك الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وإرشاد ضالهم وإعانة من يعمل عملا والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك مما هو من الإحسان الذي أمر الله به ويدخل في الإحسان أيضا الإحسان في عبادة الله تعالى وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فمن اتصف بهذه الصفات كان من الذين قال الله فيهم: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره ولما فرغ تعالى من [ذكر] أحكام الصيام فالجهاد ذكر أحكام الحج فقال: (196) * (وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) * يستدل بقوله [تعالى]: * (وأتموا الحج والعمرة) * على أمور: أحدها: وجوب الحج والعمرة وفرضيتهما الثاني: وجوب إتمامهما بأركانهما وواجباتهما التي قد دل عليها فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: خذوا عني مناسككم الثالث: أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة الرابع: أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما ولو كانا نفلا الخامس: الأمر بإتقانهما وإحسانهما وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما السادس: وفيه الأمر بإخلاصهما لله تعالى السابع: أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما إلا بما استثناه الله وهو الحصر فلهذا قال: * (فإن أحصرتم) * أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما بمرض أو ضلالة أو عدو ونحو ذلك من أنواع الحصر الذي هو المنع * (فما استيسر من الهدي) * أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي وهو سبع بدنة أو سبع بقرة أو شاة يذبحها المحصر ويحلق ويحل من إحرامه بسبب الحصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما صدهم
(٩٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 ... » »»