بعد العفو * (فله عذاب أليم) * أي: في الآخرة وأما قتله وعدمه فيؤخذ مما تقدم لأنه قتل مكافئا له فيجب قتله بذلك وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله ولا يجوز العفو عنه وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: * (ولكم في القصاص حياة) * أي: تنحقن بذلك الدماء وتنقمع به الأشقياء لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل لا يكاد يصدر منه القتل وإذا رؤي القاتل مقتولا انذعر بذلك غيره وانزجر فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل لم يحصل انكفاف الشر الذي يحصل بالقتل وهكذا سائر الحدود الشرعية فيها من النكاية والانزجار ما يدل على حكمة الحكيم الغفار ونكر الحياة لإفادة التعظيم والتكثير ولما كان هذا الحكم لا يعرف حقيقته إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة خصهم بالخطاب دون غيرهم وهذا يدل على أن الله تعالى يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم في تدبر ما في أحكامه من الحكم والمصالح الدالة على كماله وكمال حكمته وحمده وعدله ورحمته الواسعة وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب وناداهم رب الأرباب وكفى بذلك فضلا وشرفا لقوم يعقلون وقوله: * (لعلكم تتقون) * وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله ويعظم معاصيه فيتركها فيستحق بذلك أن يكون من المتقين (180 - 182) * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين * فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم * فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) * أي: فرض الله عليكم يا معشر المؤمنين * (إذا حضر أحدكم الموت) * أي: أسبابه كالمرض المشرف على الهلاك وحضور أسباب المهالك وكان قد * (ترك خيرا) * [أي: مالا] وهو المال الكثير عرفا فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف على قدر حاله من غير سرف ولا اقتصار على الأبعد دون الأقرب بل يرتبهم على القرب والحاجة ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل وقوله: * (حقا على المتقين) * دل على وجوب ذلك لأن الحق هو الثابت وقد جعله الله من موجبات التقوى واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل والأحسن في هذا أن يقال: إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة ردها الله تعالى إلى العرف الجاري ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث بعد أن كان مجملا وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره وهذا القول تتفق عليه الأمة ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا واختلف المورد فبهذا الجمع يحصل الاتفاق والجمع بين الآيات لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ الذي لم يدل عليه دليل صحيح ولما كان الموصي قد يمتنع من الوصية لما يتوهمه أن من بعده قد يبدل ما وصى به قال تعالى: * (فمن بدله) * أي: الإيصاء للمذكورين أو غيرهم * (بعدما سمعه) * [أي:] بعدما عقله وعرف طرقه وتنفيذه * (فإنما إثمه على الذين يبدلونه) * وإلا فالموصي وقع أجره على الله وإنما الإثم على المبدل المغير * (إن الله سميع) * يسمع سائر الأصوات ومنه سماعه لمقاله الموصي ووصيته فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه وأن لا يجور في وصيته * (عليم) * بنيته وعليم بعمل الموصى إليه فإذا اجتهد الموصي وعلم الله من نيته ذلك أثابه ولو أخطأ وفيه التحذير للموصى إليه من التبديل فإن الله عليم به مطلع على ما فعله فليحذر من الله هذا حكم الوصية العادلة وأما الوصية التي فيها حيف وجنف وإثم فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل وأن ينهاه
(٨٥)