تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٩٢
والانكسار لله والتقرب إليه بما أمكن من القربات والتنزه عن مقارفة السيئات فإنه بذلك يكون مبرورا والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر ولهذا قال تعالى: * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) * أتى ب من لتنصيص العموم فكل خير وقربة وعبادة داخل في ذلك أي: فإن الله به عليم وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير وخصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها من صلاة وصيام وصدقة وطواف وإحسان قولي وفعلي ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين والكف عن أموالهم سؤالا واستشرافا وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين وزيادة قربة لرب العالمين وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار وهو الموصل لأكمل لذة وأجل نعيم دائم أبدا ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر وممنوع من الوصول إلى دار المتقين فهذا مدح للتقوى ثم أمر بها أولي الألباب فقال: * (واتقون يا أولي الألباب) * أي: يا أهل العقول الرزينة اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول وتركها دليل على الجهل وفساد الرأي (198 - 202) * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) * لما أمر تعالى بالتقوى أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله لا منسوبا إلى حذق العبد والوقوف مع السبب ونسيان المسبب فإن هذا هو الحرج بعينه وفي قوله: * (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * دلالة على أمور: أحدها: الوقوف بعرفة وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج فالإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام وهو المزدلفة وذلك أيضا معروف يكون ليلة النحر بائتا بها وبعد صلاة الفجر يقف في المزدلفة داعيا حتى يسفر جدا ويدخل في ذكر الله عنده إيقاع الفرائض والنوافل فيه الثالث: أن الوقوف بمزدلفة متأخر عن الوقوف بعرفة كما تدل عليه الفاء والترتيب الرابع والخامس: أن عرفات ومزدلفة كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها وإظهارها السادس: أن مزدلفة في الحرم كما قيده بالحرام السابع: أن عرفة في الحل كما هو مفهوم التقييد بمزدلفة * (واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين) * أي: اذكروا الله تعالى كما من عليكم بالهداية بعد الضلال وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون فهذه من أكبر النعم التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم في القلب واللسان * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) * أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم وهو رمي الجمار وذبح الهدايا والطواف والسعي والمبيت ب منى ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك ولما كانت [هذه] الإفاضة يقصد بها ما ذكر والمذكورات آخر المناسك أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة وهكذا ينبغي للعبد كلما فرغ من عبادة أن يستغفر الله عن التقصير ويشكره على التوفيق لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة ومن بها على ربه وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة فهذا حقيق بالمقت ورد العمل كما أن
(٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 ... » »»