كل أحد بحسبه من غني وفقير ومتوسط كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله ولو شق تمرة ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم ولا يكلفهم ما يشق عليهم ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا أو تكليفا لنا [بما يشق] بل أمرنا بما فيه سعادتنا وما يسهل علينا وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك أتم الحمد ولما بين تعالى هذا البيان الشافي وأطلع العباد على أسرار شرعه قال: * (كذلك يبين الله لكم الآيات) * أي: الدالات على الحق المحصلات للعلم النافع والفرقان * (لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) * أي: لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه وتعرفوا أن أوامره فيها مصالح الدنيا والآخرة وأيضا لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها فترفضوها وفي الآخرة وبقائها وأنها دار الجزاء فتعمروها (220) * (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم) * لما نزل قوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * شق ذلك على المسلمين وعزلوا طعامهم عن طعام اليتامى خوفا على أنفسهم من تناولها ولو في هذه الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأخبرهم تعالى أن المقصود إصلاح أموال اليتامى بحفظها وصيانتها والاتجار فيها وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز على وجه لا يضر باليتامى لأنهم إخوانكم ومن شأن الأخ مخالطة أخيه والمرجع في ذلك إلى النية والعمل فمن علم الله من نيته أنه مصلح لليتيم وليس له طمع في ماله فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن عليه بأس ومن علم الله من نيته أن قصده بالمخالطة التوصل إلى أكلها وتناولها فذلك الذي حرج وأثم والوسائل لها أحكام المقاصد وفي هذه الآية دليل على جواز أنواع المخالطات في المآكل والمشارب والعقود وغيرها وهذه الرخصة لطف من الله [تعالى] وإحسان وتوسعة على المؤمنين وإلا ف * (لو شاء الله لأعنتكم) * أي: شق عليكم بعدم الرخصة بذلك فحرجتم وشق عليكم وأثمتم * (أن الله عزيز) * أي: له القوة الكاملة والقهر لكل شيء ولكنه مع ذلك * (حكيم) * لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة فعزته لا تنافي حكمته فلا يقال: إنه ما شاء فعل وافق الحكمة أو خالفها بل يقال: إن أفعاله وكذلك أحكامه تابعة لحكمته فلا يخلق شيئا عبثا بل لا بد له من حكمة عرفناها أم لم نعرفها وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة لتمام حكمته ورحمته (221) * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) * أي: * (ولا تنكحوا) * النساء * (المشركات) * ما دمن على شركهن * (حتى يؤمن) *؛ لأن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة ولو بلغت من الحسن ما بلغت وهذه عامة في جميع النساء المشركات وخصصتها آية المائدة في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) * وهذا عام لا تخصيص فيه ثم ذكر تعالى الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة لمن خالفهما في الدين فقال: * (أولئك يدعون إلى النار) * أي: في أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم فمخالطتهم على خطر منهم والخطر ليس من الأخطار الدنيوية إنما هو الشقاء الأبدي ويستفاد من تعليل الآية النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع لأنه إذا لم يجز التزوج مع أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى وخصوصا الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم كالخدمة ونحوها وفي قوله: * (ولا تنكحوا المشركين) * دليل على اعتبار الولي [في النكاح] * (والله يدعو إلى الجنة والمغفرة) * أي: يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة التي من آثارها دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى أسبابهما من الأعمال الصالحة والتوبة النصوح والعلم النافع والعمل الصالح * (ويبين آياته) * أي: أحكامه وحكمها * (للناس لعلهم يتذكرون) * فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه وعلم ما جهلوه والامتثال لما ضيعوه
(٩٩)