الأول حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق وأن الجميع يسألونه مطالبهم ويستدفعونه ما يضرهم ولكن مقاصدهم تختلف فمنهم: * (من يقول ربنا آتنا في الدنيا) * أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته وليس له في الآخرة من نصيب لرغبته عنها وقصر همته على الدنيا ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه وكل من هؤلاء وهؤلاء لهم نصيب من كسبهم وعملهم وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم وهماتهم ونياتهم جزاء دائرا بين العدل والفضل يحمد عليه أكمل حمد وأتمه وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع مسلما أو كافرا أو فاسقا ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه دليلا على محبته له وقربه منه إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد من رزق هنيء واسع حلال وزوجة صالحة وولد تقر به العين وراحة وعلم نافع وعمل صالح ونحو ذلك من المطالب المحبوبة والمباحة وحسنة الآخرة هي السلامة من العقوبات في القبر والموقف والنار وحصول رضا الله والفوز بالنعيم المقيم والقرب من الرب الرحيم فصار هذا الدعاء أجمع دعاء وأكمله وأولاه بالإيثار ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به ويحث عليه (203) * (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) * يأمر تعالى بذكره في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق الثلاثة بعد العيد لمزيتها وشرفها وكون بقية أحكام المناسك تفعل بها ولكون الناس أضيافا لله فيها ولهذا حرم صيامها فللذكر فيها مزية ليست لغيرها ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله ويدخل في ذكر الله فيها ذكره عند رمي الجمار وعند الذبح والذكر المقيد عقب الفرائض بل قال بعض العلماء: إنه يستحب فيها التكبير المطلق كالعشر وليس ببعيد * (فمن تعجل في يومين) * أي: خرج من منى ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني * (فلا إثم عليه ومن تأخر) * بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد * (فلا إثم عليه) * وهذا تخفيف من الله [تعالى] على عباده في إباحة كلا الأمرين ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين فالمتأخر أفضل لأنه أكثر عبادة ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي غيره والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم والمتأخر فقط قيده بقوله: * (لمن اتقى) * أي: اتقى الله في جميع أموره وأحوال الحج فمن اتقى الله في كل شيء حصل له نفي الحرج في كل شيء ومن اتقاه في شيء دون شيء كان الجزاء من جنس العمل * (واتقوا الله) * بامتثال أوامره واجتناب معاصيه * (واعلموا أنكم إليه تحشرون) * فمجازيكم بأعمالكم فمن اتقاه وجد جزاء التقوى عنده ومن لم يتقه عاقبه أشد العقوبة فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله فلهذا حث تعالى على العلم بذلك (204 - 206) * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) * لما أمر تعالى بالإكثار من ذكره وخصوصا في الأوقات الفاضلة الذي هو خير ومصلحة وبر أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعله قوله فالكلام إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه فقال: * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) * أي: إذا تكلم راق كلامه للسامع وإذا نطق ظننته يتكلم بكلام نافع ويؤكد ما يقول بأنه * (يشهد الله على ما في قلبه) * بأن يخبر أن الله يعلم أن ما في قلبه موافق لما نطق به وهو كاذب في ذلك لأنه يخالف قوله فعله فلو كان صادقا لتوافق القول والفعل كحال المؤمن غير المنافق ولهذا قال: * (وهو ألد الخصام) * أي: وإذا خاصمته وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب وما يترتب على ذلك ما هو من مقابح الصفات ليس كأخلاق المؤمنين الذين جعلوا السهولة مركبهم والانقياد للحق وظيفتهم والسماحة سجيتهم * (وإذا تولى) * هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك * (سعى في الأرض ليفسد فيها) * أي: يجتهد على أعمال المعاصي التي هي إفساد في الأرض * (ويهلك) * بسبب ذلك * (الحرث والنسل) * فالزروع والثمار والمواشي تتلف وتنقص وتقل بركتها بسبب العمل في المعاصي * (والله لا يحب الفساد) * فإذا كان لا يحب الفساد فهو يبغض العبد المفسد في الأرض غاية البغض وإن قال بلسانه قولا حسنا
(٩٣)