تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٣٤
ثم عجزهم عن معارضته، وتحديهم إياه، آية أخرى. ثم ظهوره، وبروزه جهرا علانية، يتلى عليهم، ويقال: هو من عند الله، قد أظهره الرسول، وهو في وقت قل فيه أنصاره، وكثر مخالفوا وأعداؤه، فلم يخفه، ولم يثن ذلك عزمه. بل خرج به على رؤوس الأشهاد، ونادى به بين الحاضر والباد، بأن هذا كلام ربي. فهل أحد يقدر على معارضته، أو ينطق بمباراته أو يستطيع مجاراته؟ ثم هيمنته على الكتب المتقدمة، وتصحيحه للصحيح، ونفي ما أدخل فيها من التحريف، والتبديل. ثم هدايته لسواء السبيل، في أمره ونهيه. فما أمر بشيء فقال العقل (ليته لم يأمر به)، ولا نهى عن شيء قال العقل: (ليته لم ينه عنه). بل هو مطابق للعدل والميزان، والحكمة المعقولة لذوي البصائر والعقول. ثم مسايرة إرشاداته، وهدايته، وأحكامه، لكل حال وكل زمان، بحيث لا تصلح الأمور إلا به. فجميع ذلك، يكفي من أراد تصديق الحق، وعمل على طلب الحق. فلا كفى الله من لم يكفه القرآن، ولا شفى الله من لم يشفه الفرقان، ومن اهتدى به واكتفى، فإنه رحمة له وخير، فلذلك قال: * (إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) * وذلك لما يحصل فيه من العلم الكثير، والخير الغزير وتزكية القلوب والأرواح، وتطهير العقائد، وتكميل الأخلاق، والفتوحات الإلهية، والأسرار الربانية. * (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا) * فأنا قد استشهدته. فإن كنت كاذبا، أحل بي ما به تعتبرون. وإن كان إنما يؤيدني، وينصرني، وييسر لي الأمور، فلتكفكم هذه الشهادة الجليلة من الله. فإن وقع في قلوبكم أن شهادته وأنتم لم تسمعوه، ولم تروه لا تكفي دليلا، فإنه * (يعلم ما في السماوات والأرض) *. ومن جملة معلوماته حالي وحالكم، ومقالي لكم. فلم كنت متقولا عليه، مع علمه بذلك، وقدرته على عقوبتي لكان قدحا، في علمه، وقدرته، وحكمته كما قال تعالى: * (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) *. * (والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) * حيث خسروا الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وحيث فاتهم النعيم المقيم، وحيث حصل لهم في مقابلة الحق الصحيح، كل باطل قبيح، وفي مقابلة النعيم، كل عذاب أليم، فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. * (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون) * يخبر تعالى، عن جهل المكذبين للرسول، وما جاء به، وأنهم يقولون استعجالا للعذاب، وزيادة تكذيب: * (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) *؟ يقول تعالى: * (ولولا أجل مسمى) * مضروب لنزوله، ولم يأت بعد * (لجاءهم العذاب) * بسبب تعجيزهم لنا، وتكذيبهم الحق، فلو آخذناهم بجهلهم، لكان كلامهم، أسراع لبلائهم وعقوبتهم. ولكن مع ذلك فلا يستبطؤوا نزوله * (وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون) *. فوقع كما أخبر الله تعالى، لما قدموا ل (بدر) بطرين مفاخرين، ظانين أنهم قادرون على مقصودهم. فأذلهم الله، وقتل كبارهم، واستوعب جملة أشرارهم، ولم يبق فيهم بيت، إلا أصابته تلك المصيبة. فأتاهم العذاب من حيث لم يحتسبوا، ونزل بهم، وهم لا يشعرون. هذا، وإن لم ينزل عليهم العذاب الدنيوي، فإن أمامهم العذاب الأخروي، الذي لا يخلص منهم أحد منه، سواء عوجل بعذاب الدنيا، أو أمهل. * (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) * ليس لهم عنها، معدل ولا منصرف. وقد أحاطت بهم من كل جانب، كما أحاطت بهم ذنوبهم، وسيئاتهم، وكفرهم. وذلك العذاب، هو العذاب الشديد. * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون) * فإن أعمالكم انقلبت عليكم عذابا، وشملكم العذاب، كما شملكم الكفر والذنوب. * (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) * يقول تعالى: * (يا عبادي الذين آمنوا) * وصدقوا رسولي * (إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) * فإذا تعذرت عليكم عبادة ربكم في أرض، فارتحلوا منها إلى أرض أخرى، حيث كانت العبادة لله وحده. فأماكن العبادة، ومواضعها، واسعة، والمعبود واحد، والموت لا بد أن ينزل بكم ثم ترجعون إلى ربكم، فيجازى من أحسن عبادته وجمع بين الإيمان والعمل الصالح بإنزاله الغرف العالية، والمنازل الأنيقة الجامعة لما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون.
(٦٣٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 629 630 631 632 633 634 635 636 637 638 639 ... » »»