يذكر الله عنهم، أنه أهلكهم بعذاب. بل ذكر اعتزاله إياهم، وهجرته من بين أظهرهم. فأما ما يذكر في الإسرائيليات، أن الله تعالى فتح على قومه باب البعوض، فشرب دماءهم، وأكل لحومهم، وأتلفهم عن آخرهم، فهذا يتوقف الجزم به، على الدليل الشرعي، ولم يوجد. فلو كان الله استأصلهم بالعذاب لذكره، كما ذكر إهلاك الأمم المكذبة. ولكن هل من أسرار ذلك، أن الخليل عليه السلام، من أرحم الخلق، وأفضلهم وأحلمهم، وأجلهم، فلم يدع على قومه، كما دعا غيره، ولم يكن الله ليجري عليه بسببه، عذابا عاما؟ ومما يدل على ذلك، أنه راجع الملائكة في إهلاك قوم لوط، وجادلهم، ودافع عنهم، وهم ليسوا قومه، والله أعلم بالحال. * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) * أي: بعدما هاجر إلى الشام * (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) *. فلم يأت بعده نبي إلا من ذريته، ولا نزل كتاب إلا على ذريته، حتى ختموا بابنه محمد صلى الله عليه وسلم، وعليهم أجمعين. وهذا من أعظم المناقب والمفاخر، أن تكون مواد الهداية والرحمة، والسعادة، والفلاح، والفوز، في ذريته، وعلى أيديهم اهتدى المهتدون، وآمن المؤمنون، وصلح الصالحون: * (وآتيناه أجره في الدنيا) * من الزوجة الجميلة، فائقة الجمال، والرزق الواسع، والأولاد، الذين بهم قرت عينه، ومعرفة الله ومحبته، والإنابة إليه. * (وإنه في الآخر لمن الصالحين) * بل وهو، ومحمد صلى الله عليه وسلم، أفضل الصالحين على الإطلاق، وأعلاهم منزلة، فجمع الله له بين سعادة الدنيا والآخرة. * (ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين * قال رب انصرني على القوم المفسدين * ولما جاءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل ه ذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين * ولمآ أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين * إنا منزلون على أهل ه ذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون * ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون) * تقدم أن لوطا عليه السلام، آمن لإبراهيم، وصار من المهتدين به. وقد ذكروا، أنه ليس من ذرية إبراهيم، وإنما هو ابن أخي إبراهيم. فقوله تعالى: * (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) * وإن كان عاما، فلا يناقض كون لوط، نبيا رسولا وهو ليس من ذريته، لأن الآية، جيء بها، لسياق المدح والثناء، على الخليل. وقد أخبر أن لوطا، اهتدى على يديه. ومن اهتدى على يديه أكمل ممن اهتدى من ذريته بالنسبة إلى فضيلة الهادي، والله أعلم. فأرسل الله لوطا إلى قومه، وكانوا مع شركهم، قد جمعوا بين فعل الفاحشة في الذكور، وقطع السبيل، وفشو المنكرات في مجالسهم. فنصحهم لوط عن هذه الأمور، وبين لهم قبائحها في نفسها، وما تؤول إليه من العقوبة البليغة، فلم يرعووا، ولم يذكروا. * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) *. فأيس منهم نبيهم، وعلم استحقاقهم العذاب، وجزع من شدة تكذيبهم له، فدعا عليهم و * (قال رب انصرني على القوم المفسدين) * فاستجاب الله دعاءه، فأرسل الملائكة لإهلاكهم. فمروا بإبراهيم قبل ذلك، وبشروه بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب. ثم سألهم إبراهيم أين يريدون؟ فأخبروه أنهم يريدون إهلاك قوم لوط فجعل يراجعهم، ويقول: * (إن فيها لوطا) * فقالوا له: * (لننجينه وأهله، إلا امرأته كانت من الغابرين) * ثم مضوا حتى أتوا لوطا. فساءه مجيئهم، وضاق بهم ذرعا، بحيث إنه لم يعرفهم، وظن أنهم من جملة الضيوف أبناء السبيل، فخاف عليهم من قومه، فقالوا له: * (لا تخف ولا تحزن) * وأخبروه أنهم رسل الله. * (إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا) * أي: عذابا * (من السماء بما كانوا يفسقون) *. فأمروه أن يسري بأهله ليلا. فلما أصبحوا، قلب الله عليهم ديارهم، فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل متتابعة حتى أبادتهم وأهلكتهم، فصاروا سمرا من الأسمار، وعبرة من العبر. * (ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون) * أي: تركنا من ديار قوم لوط، آثارا بينة لقوم يعقلون العبر بقلوبهم، فينتفعون بها. كما قال تعالى: * (وإنكم لتمرون عليه مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) *. * (وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم آلآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين * فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) * أي: * (و) * أرسلنا * (إلى مدين) * القبيلة المعروفة المشهورة * (أخاهم شعيبا) * الذي أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بالبعث ورجائه، والعمل له، ونهاهم عن الإفساد في الأرض، ببخس المكاييل والموازين والسعي بقطع الطرق. * (فكذبوه فأخذتهم الرجفة) * عذاب الله * (فأصبحوا في دارهم جائمين) *. أي: وكذلك ما فعلنا بعاد وثمود، وقد علمت قصتهم، وتبين لكم بشيء
(٦٣٠)