تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٠٤
* (لأعذبنه عذابا شديدا) * دون القتل، * (أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) * أي: حجة واضحة على تخلفه. وهذا من كمال ورعه وإنصافه، أنه لم يقسم على مجرد عقوبته، بالعذاب أو القتل، لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب. وغيبته، قد تحتمل أنها لعذر واضح، فلذلك استثناه، لورعه وفطنته. * (فمكث غير بعيد) * ثم جاء، وهذا يدل على هيبة جنوده منه، وشدة أئتمارهم لأمره، حتى إن هذا الهدهد، الذي خلفه العذر الواضح، لم يقدر على التخلف زمنا كثيرا. * (فقال) * لسليمان * (أحطت بما لم تحط به) * عندي من العلم، علم ما أحطت به، على علمك الواسع، وعلو درجتك فيه. * (وجئتك من سبإ) * القبيلة، المعروفة في اليمن * (بنبأ يقين) * أي: خبر متيقن. ثم فسر هذا النبأ فقال: * (إني وجدت امرأة تملكهم) * أي: تملك قبيلة سبأ، وهي امرأة * (وأوتيت من كل شيء) * يؤتاه الملوك، من الأموال، والسلاح، والجنود، والحصون، والقلاع ونحو ذلك. * (ولها عرش عظيم) * أي: كرسي ملكها، الذي تجلس عليه، عرش هائل. وعظم العروش، تدل على عظمة المملكة وقوة السلطان وكثرة رجال الشورى. * (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) * أي: هم مشركون يعبدون الشمس. * (وزين لهم الشيطان أعمالهم) * فرأوا ما هم عليه هو الحق. * (فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون) * لأن الذي يرى أن الذي هو عليه حق، لا مطمع في هدايته حتى تتغير عقيدته. ثم قال: * (الآ) * أي: هلا * (يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض) * أي: يعلم الخفي الخبيء، في أقطار السماوات، وأنحاء الأرض، من صغار المخلوقات، وبذور النباتات، وخفايا الصدور. ويخرج خبء الأرض والسماء، بإنزال المطر، وإنبات النباتات، ويخرج خبء الأرض عند النفخ في الصور وإخراج الأموات من الأرض، ليجازيهم بأعمالهم * (ويعلم ما تخفون وما تعلنون) *. * (الله لا إله إلا هو) * أي: لا تنبغي العبادة، والإنابة، والذل، والحب، إلا له، لأنه المألوه، لما له من الصفات الكاملة، والنعم الموجبة لذلك. * (رب العرش العظيم) * الذي هو سقف المخلوقات ووسع الأرض والسماوات. فهذا الملك، عظيم السلطان، كبير الشأن، هو الذي يذل له، ويخضع، يسجد له، ويركع. فسلم الهدهد، حين ألقي إليه هذا النبأ العظيم، وتعجب سليمان كيف خفي عليه. وقال مثبتا لكمال عقله ورزانته: * (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا) * وسيأتي نصه * (فألقه إليهم ثم تول عنهم) * أي: استأخر غير بعيد * (فانظر ماذا يرجعون) * إليك وما يتراجعون به. فذهب به فألقاه عليها، فقالت لقومها: * (إني ألقي إلي كتاب كريم) * أي: جليل المقدار، من أكبر ملوك الأرض. ثم بينت مضمونه فقالت: * (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين) * أي: لا تكونوا فوقي، بل اخضعوا تحت سلطاني، وانقادوا لأوامري، وأقبلوا إلي مسلمين. وهذا في غاية الوجازة، مع البيان التام، فإنه تضمن نهيهم عن العلو عليه، والبقاء على حالهم، التي هم عليها والانقياد لأمره، والدخول تحت طاعته، ومجيئهم إليه، ودعوتهم إلى الإسلام. وفيه استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة، وتقديم الاسم في أول عنوان الكتاب. فمن حزمها وعقلها، أن جمعت كبار دولتها، ورجال مملكتها وقالت: * (يا أيها الملأ أفتوني في أمري) * أي: أخبروني، ماذا نجيبه به؟ وهل ندخل تحت طاعته، وننقاد؟ أم ماذا نفعل؟ * (ما كنت قاطعا أمرا حتى تشهدون) * أي: ما كنت مستبدة بأمر، دون رأيكم ومشورتكم. * (قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد) * أي: إن رددت عليه قوله، ولم تدخلي في طاعته، فإنا أقوياء على القتال. فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي، الذي لو تم، لكان فيه دمارهم. ولكنهم أيضا لم يستقروا عليه، بل قالوا: * (الأمر إليك) * أي: الرأي ما رأيت، لعلمهم بعقلها، وحزمها، ونصحها لهم * (فانظري) * نظر فكر وتدبر * (ماذا تأمرين) *. فقالت لهم مقنعة لهم بالعدول عن رأيهم، ومبينة سوء مغبة القتال * (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) * قتلا، وأسرا، ونهبا لأموالها، وتخريبا لديارها. * (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) * أي: جعل الرؤساء السادة، أشراف الناس من الأرذلين، أي: فهذا رأي غير سديد. وأيضا فلست بمطيعة له، قبل الاحتيال، وإرسال من يكشف عن أحواله ويتدبرها. وحينئذ نكون على بصيرة من أمرنا. فقالت: * (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون) * منه. هل يستمر على رأيه
(٦٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 599 600 601 602 603 604 605 606 607 608 609 ... » »»