شركا، * (ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار) *، والنهي عن الشيء، أمر بضده، فالنهي عن الشرك، أمر بإخلاص العبادة وحده لا شريك له، محبة، وخوفا، ورجاء، وذلا، وإنابة إليه في جيمع الأوقات. ولما أمره بما فيه كمال نفسه، أمره بتكميل غيره فقال: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * الذين هم أقرب الناس إليك، وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي، وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس. كما إذا أمر الإنسان بعموم الإحسان، ثم قيل له (أحسن إلى قرابتك)، فيكون هذا الخصوص، دالا على التأكيد، وزيادة الحث. فامتثل صلى الله عليه وسلم، هذا الأمر الإلهي، فدعا سائر بطون قريش، فعمم وخصص، وذكرهم ووعظهم، ولم يبق صلى الله عليه وسلم، من مقدوره شيئا. من نصحهم، وهدايتهم، إلا فعله، فاهتدى من اهتدى، وأعرض من أعرض. * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) * بلين جانبك، ولطف خطابك لهم، وتوددك، وتحببك إليهم، وحسن خلقك والإحسان التام بهم. وقد فعل صلى الله عليه وسلم، ذلك كما قال تعالى: * (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) *، فهذه أخلاقه صلى الله عليه وسلم، أكمل الأخلاق، التي يحصل به من المصالح العظيمة، ودفع المضار، ما هو مشاهد. فهل يليق بمؤمن بالله ورسوله، ويدعي اتباعه والاقتداء به، أن يكون كلا على المسلمين، شرس الأخلاق، شديد الشكيمة، غليظ القلب، فظ القول، فظيعه؟. وإن رأى منهم معصية، أو سوء أدب، هجرهم، ومقتهم، وأبغضهم، لا لين عنده، ولا أدب لديه، ولا توفيق. قد حصل من هذه المعاملة، من المفاسد، وتعطيل المصالح، ما حصل، ومع ذلك تجده محتقرا، لمن اتصف بصفات الرسول الكريم، وقد رماه بالنفاق والمداهنة، وذكر نفسه ورفعها، وأعجب بعمله. فهل يعد هذا، إلا من جهله، وتزيين الشيطان، وخدعه له، ولهذا قال الله لرسوله: * (فإن عصوك) * في أمر من الأمور، فلا تتبرأ منهم، ولا تترك معاملتهم، بخفض الجناح، ولين الجانب، بل تبرأ من عملهم، فعظهم عليه، وانصحهم، وابذل قدرتك في ردهم عنه، وتوبتهم منه. وهذا الدفع، احتراز وهم من يتوهم، أن قوله: * (واخفض جناحك) * للمؤمنين، يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم، ما داموا مؤمنين، فدفع هذا، والله أعلم. * (وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم) * أعظم مساعد للعبد على القيام بما أمر به، الاعتماد على ربه، والاستعانة بمولاه، على توفيقه للقيام بالمأمور، فلذلك أمر الله تعالى بالتوكل عليه فقال: * (وتوكل على العزيز الرحيم) * والتوكل هو: اعتماد القلب على الله تعالى، في جلب المنافع، ودفع المضار، مع ثقته به، وحسن ظنه بحصول مطلوبه، فإنه عزيز رحيم، بعزته يقدر على إيصال الخير، ودفع الشر عن عبده، وبرحمته به، يفعل ذلك. ثم نبهه على الاستعانة، باستحضار قرب الله، والنزول في منزل الإحسان فقال: * (الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين) * أي: يراك في هذه العبادة العظيمة، التي هي الصلاة، وقت قيامك، وتقلبك راكعا وساجدا. خصها بالذكر، لفضلها وشرفها، ولأن من استحضر فيها قرب ربه، خشع وذل، وأكملها، وبتكميلها، يكمل سائر عمله، ويستعين بها على جميع أموره. * (إنه هو السميع) * لسائر الأصوات، على اختلافها، وتشتتها، تنوعها، * (العليم) * الذي أحاط بالظواهر والبواطن، والغيب والشهادة. فاستحضار العبد برؤية الله له في جميع أحواله، وسمعه لكل ما ينطق به، وعلمه بما ينطوي عليه قلبه، من الهم، والعزم، والنيات، يعينه على منزلة الإحسان. * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) * هذا جواب لمن قال من مكذبي الرسول: إن محمدا ينزل عليه شيطان. وقول من قال: إنه شاعر فقال: * (هل أنبئكم) * أي: أخبركم الخبر الحقيقي، الذي لا شك فيه، ولا شبهة، عن من تنزل الشياطين عليه، أي: بصفة الأشخاص، الذين تنزل عليهم الشياطين. * (تنزل على كل أفاك) * أي: كذاب، كثير القول للزور، والإفك بالباطل، * (أثيم) * في فعله، كثير المعاصي، هذا الذي تنزل عليه الشياطين، وتناسب حاله حالهم؟. * (ويلقون) * عليه * (السمع) * الذي يسترقونه من السماء، * (وأكثرهم كاذبون) * أي: أكثر ما يلقون إليه، كذب، فيصدق واحدة، ويكذب معها مائة، فيختلط الحق بالباطل، ويضمحل الحق بسبب قلته، وعدم علمه. فهذه صفة الأشخاص، الذين تنزل عليهم الشياطين، وهذه صفة وحيهم له. وأما محمد صلى الله عليه وسلم، فحاله مباينة لهذه الأحوال، أعظم مباينة، لأنه الصادق الأمين، البار، الراشد، الذي جمع بين بر القلب، وصدق اللهجة، ونزاهة الأفعال،
(٥٩٩)