تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٠٢
الجيب، فتخرج بيضاء في جملة تسع آيات، تذهب بها، وتدعو فرعون وقومه * (إنهم كانوا قوما فاسقين) *، فسقوا بشركهم، وعتوهم، وعلوهم على عباد الله، واستكبارهم في الأرض، بغير الحق. فذهب موسى عليه السلام إلى فرعون وملإه، ودعاهم إلى الله تعالى، وأراهم الآيات. * (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة) * مضيئة، تدل على الحق، ويبصر بها كما تبصر الأبصار بالشمس. * (قالوا هذا سحر مبين) * لم يكفهم مجرد القول بأنه سحر، بل قالوا: * (مبين) * ظاهر لكل أحد. وهذا من أعجب العجائب، الآيات المبصرات، والأنوار الساطعات تجعل من بين الخزعبلات، وأظهر السحر. هل هذا، إلا من أعظم المكابرة، وأوقح السفسطة. * (وجحدوا بها) * أي كفروا بآيات الله، جاحدين لها. * (واستيقنتها أنفسهم) * أي: ليس جحدهم، مستندا إلى الشك والريب. وإنما جحدهم مع علمهم، وتيقنهم بصحتها * (ظلما) * منهم لحق ربهم ولأنفسهم. * (وعلوا) * على الحق وعلى العباد، وعلى الانقياد للرسل. * (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) * أسوأ عاقبة، دمرهم الله وأغرقهم في البحر، وأخزاهم، وأورث مساكنهم المستضعفين من عباده. * (ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين * وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن ه ذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون * حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين * وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغآئبين * لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين * فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبأ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون * ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إل ه إلا هو رب العرش العظيم * قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابي ه ذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون * قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحم ن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين * قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين * قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة وكذلك يفعلون * وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فمآ آتاني الله خير ممآ آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون * قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال ه ذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم * قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين * قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) * يذكر في هذا القرآن، وينوه بمنته على داود وسليمان ابنه، بالعلم الواسع الكثير، بدليل التنكير، كما قال تعالى: * (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) * الآية. * (وقالا) * شاكرين لربهما منته، الكبرى بتعليمهما: * (الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) * فحمدا لله على جعلهما من المؤمنين، أهل السعادة، وأنهما كانا من خواصهم. ولا شك أن المؤمنين أربع درجات: الصالحون، ثم فوقهم: الشهداء، ثم فوقهم: الصديقون، ثم فوقهم: الأنبياء. وداود وسليمان، من خواص الرسل، وإن كانا دون درجة أولي العزم الخمسة. لكنهما من جملة الرسل الفضلاء الكرام، الذين نوه الله بذكرهم، ومدحهم في كتابه، مدحا عظيما، فحمدا الله على بلوغ هذه المنزلة. وهذا عنوان سعادة العبد، أن يكون شاكرا لله على نعمه، الدينية والدنيوية، وأن يرى جميع النعم من ربه. فلا يفخر بها ولا يعجب بها، بل يرى أنها تستحق عليه شكرا كثيرا. فلما مدحهما مشتركين، خص سليمان، بما خصه به، لكون الله أعطاه ملكا عظيما، وصار له من المجريات، ما لم يكن لأبيه، صلى الله عليهما وسلم، فقال: * (وورث سليمان داود) * أي: ورث علمه ونبوته، فانضم علم أبيه إلى علمه، فلعله، تعلم من أبيه ما عنده، من العلم، مع ما كان عليه من العلم وقت أبيه، كما تقدم من قوله ففهمناها سليمان. وقال: شكرا لله، وتبجحا بإحسانه، وتحدثا بنعمته: * (يا أيها الناس علمنا منطق الطير) * فكان عليه الصلاة والسلام، يفقه ما تقول، وتتكلم به، كما راجع الهدهد، وراجعه، وكما فهم قول النملة للنمل، كما يأتي، وهذا، لم يكن لأحد غير سليمان عليه السلام. * (وأوتينا من كل شيء) * أي: أعطانا الله من النعم، ومن أسباب الملك، ومن السلطنة والقهر، ما لم يؤت أحدا من الآدميين. ولهذا دعا ربه فقال: * (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * فسخر الله له الشياطين، يعملون له كل ما شاء، من الأعمال، التي يعجز عنها غيرهم، وسخر له الريح، غدوها شهر، ورواحها شهر. * (إن هذا) * الذي أعطانا الله، وفضلنا، واختصنا به * (لهو الفضل المبين) * الواضح الجلي، فاعترف أكمل اعتراف بنعمة الله تعالى. * (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) * أي: جمع له جنوده الكثيرة، الهائلة، المتنوعة، من بني آدم، ومن الجن، والشياطين، ومن الطيور فهم يوزعون، يدبرون، ويرد أولهم على آخرهم، وينظمون غاية التنظيم، في سيرهم ونزولهم، وحلهم، وترحالهم قد استعد لذلك، وأعد له عدته. وكل هذه الجنود مؤتمرة بأمره، لا تقدر على عصيانه، ولا تتمرد عليه، كما قال تعالى: * (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك) * أي: أعط بغير حساب، فسار بهذه الجنود الضخمة في بعض أسفاره. * (حتى إذا أتوا على وادي النمل
(٦٠٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 597 598 599 600 601 602 603 604 605 606 607 ... » »»