تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٠٠
من المحرم. والوحي الذي ينزل عليه من عند الله، ينزل محروسا محفوظا، مشتملا على الصدق العظيم، الذي لا شك فيه ولا ريب. فهل يستوي يا أهل العقول هديه وإفكهم؟. وهل يشتبهان، إلا على مجنون، لا يميز، ولا يفرق بين الأشياء؟ فلما نزهه عن نزول الشياطين عليه، برأه أيضا من الشعر فقال: * (والشعراء) * أي: هل أنبئكم أيضا عن حالة الشعراء، ووصفهم الثابت، فإنهم * (يتبعهم الغاوون) * عن طريق الهدى، المقبلون على طريق الغي والردي. فهم في أنفسهم غاوون، وتجد أتباعهم كل غاو، ضال فاسد. * (ألم تر) * غوايتهم وشدة ضلالهم * (أنهم في كل واد) * من أودية الشعر، * (يهيمون) * فتارة في مدح، وتارة في قدح، وتارة يتغزلون، وأخرى يسخرون، ومرة يمرحون، وآونة يحزنون، فلا يستقر لهم قرار، ولا يثبتون على حال من الأحوال. * (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) * أي: هذا وصف الشعراء، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم. فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق، قلت هذا أشد الناس غراما، وقلبه فارغ من ذاك، وإذا سمعته يمدح أو يذم، قلت: هذا صدق، وهو كذب. وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها، وتروك لم يتركها، وكرم لم يحم حول ساحته، وشجاعة يعلو بها على الفرسان، وتراه أجبن من كل جبان، هذا وصفهم. فانظر، هل يطابق حالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الراشد البار، الذي يتبعه كل راشد ومهتد، الذي قد استقام على الهدى، وجانب الردى، ولم تتناقض أفعاله؟، فهو لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهي إلا عن الشر، ولا أخبر بشيء إلا صدق، ولا أمر بشيء إلا كان أول الفاعلين له، ولا نهى عن شيء إلا كان أول التاركين له. فهل تناسب حاله، حالة الشعراء، ويقاربهم؟ أم هو مخالف لهم من جميع الوجوه؟ فصلوات الله وسلامه، على هذا الرسول الأكمل، والهمام الأفضل، أبد الآبدين، ودهر الداهرين، الذي ليس بشاعر، ولا ساحر، ولا مجنون، لا يليق به إلا كل الكمال. ولما وصف الشعراء بما وصفهم به، استثنى منهم من آمن بالله ورسوله، وعمل صالحا، وأكثر من ذكر الله، وانتصر من أعدائه المشركين، من بعد ما ظلموهم. فصار شعرهم، من أعمالهم الصالحة، وآثار إيمانهم، لاشتماله على مدح أهل الإيمان، والانتصار من أهل الشرك والكفر، والذب عن دين الله، وتبيين العلوم النافعة، والحث على الأخلاق الفاضلة فقال: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكرو الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) * إلى موقف وحساب، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، إلا أحصاها، ولا حقا إلا استوفاه. والحمد الله رب العالمين. تم تفسير سورة الشعراء. سورة النمل * (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون * إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أول ئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون * وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) * ينبه تعالى عباده على عظمة القرآن، ويشير إليه إشارة دالة على التعظيم فقال: * (تلك آيات القرآن وكتاب مبين) * أي: هي أعلى الآيات، وأقوى البينات، وأوضح الدلالات، وأبينها على أجل المطالب، وأفضل المقاصد، وخير الأعمال، وأزكى الأخلاق. آيات تدل على الأخبار الصادقة، والأوامر الحسنة، والنهي عن كل عمل وخيم، وخلق ذميم. آيات بلغت في وضوحها وبيانها البصائر النيرة، مبلغ الشمس للأبصار. آيات دلت على الإيمان، ودعت للوصول إلى الإيمان، وأخبرت عن الغيوب الماضية والمستقبلة، طبق ما كان ويكون. آيات دعت إلى معرفة الرب العظيم، بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وأفعاله الكاملة. آيات عرفتنا برسله وأوليائه، ووصفتهم حتى كأننا ننظر إليهم بأبصارنا. ولكن مع هذا لم ينتفع بها كثير من العالمين، ولم يهتد بها جميع المعاندين، صونا لها، عن من لا خير فيه ولا صلاح، ولا زكاء في قلبه. وإنما اهتدى بها، من خصهم الله بالإيمان، واستنارت بذلك قلوبهم، وصفت سرائرهم. فلهذا قال: * (هدى وبشرى للمؤمنين) * أي: تهديهم إلى سلوك الصراط المستقيم، وتبين لهم، ما ينبغي أن يسلكوه أو يتركوه، وتبشرهم بثواب الله، المرتب على الهداية لهذا الطريق. ربما قيل: لعله يكثر مدعو الإيمان فهل يقبل من كل أحد ادعى
(٦٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 595 596 597 598 599 600 601 602 603 604 605 ... » »»