تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٠١
أنه مؤمن ذلك؟ أم لا بد لذلك من دليل؟ وهو الحق، فلذلك بين تعالى صفة المؤمنين فقال: * (الذين يقيمون الصلاة) * فرضها، ونفلها، فيأتون بأفعالها الظاهرة، من أركانها، وشروطها، وواجباتها، ومستحباتها. وأفعالها الباطنة، وهو: الخشوع الذي روحها ولبها، باستحضار قرب الله، وتدبر ما يقول المصلي ويفعله. * (ويؤتون الزكاة) * المفروضة لمستحقيها * (وهم بالآخرة هم يوقنون) * أي: قد بلغ معهم الإيمان إلى أن وصل إلى درجة اليقين، وهو: العلم التام، والواصل إلى القلب، الداعي إلى العمل. ويقينهم بالآخرة، يقتضي كمال سعيهم لها، وحذرهم من أسباب العذاب وموجبات العقاب، وهذا أصل كل خير. * (أن الذين لا يؤمنون بالآخرة) * ويكذبون بها، ويكذبون من جاء بإثباتها. * (زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) * حائرين مترددين، مؤثرين سخط الله على رضاه، قد انقلبت عليهم الحقائق، فرأوا الباطل حقا، والحق باطلا. * (أولئك الذين لهم سوء العذاب) * أي: أشده، وأسوأه، وأعظمه، * (وهم في الآخرة هم الأخسرون) * حصر الخسار فيهم، بكونهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وخسروا الإيمان الذي دعتهم إليه الرسل. * (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) * أي: وإن هذا القرآن الذي ينزل عليك، وتتلقنه، ينزل من عند * (حكيم) * يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها. * (عليم) * بأسرار الأحوال، وبواطنها كظواهرها. وإذا كان من عند * (حكيم عليم) * علم أنه كله حكمة ومصالح للعباد، من الذي هو أعلم بمصالحهم منهم؟ * (إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون * فلما جآءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين * يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم * وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم * وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما جآءتهم آياتنا مبصرة قالوا ه ذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) * * (إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا) * إلى آخر قصته، يعني: اذكر هذه الحالة الفاضلة الشريفة من أحوال موسى بن عمران، وابتداء الوحي إليه واصطفاءه برسالته، وتكليم الله إياه. وذلك أنه لما مكث في مدين عدة سنين، وسار أهله من مدين، متوجها إلى مصر، فلما كان في أثناء الطريق، ضل، وكان في ليلة مظلمة باردة، فقال لهم: * (إني آنست نارا) * أي: أبصرت نارا من بعيد * (سآتيكم منها بخبر) * عن الطريق. * (أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) * أي: تستدفؤون، وهذا دليل على أنه تائه، ومشتد برده، هو وأهله. * (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها) * أي: ناداه الله تعالى وأخبره، أن هذا محل مقدس مبارك. ومن بركته، أن جعله الله موضعا لتكليم الله لموسى وإرساله. * (وسبحان الله رب العالمين) * على أن يظن به نقص، أو سوء، بل هو الكامل، في وصفه، وفعله. * (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم) * أي: أخبره الله أنه الله المستحق للعبادة، وحده لا شريك له، كما في الآية الأخرى * (إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) *. * (العزيز) * الذي قهر جميع الأشياء، وأذعنت له كل المخلوقات، * (الحكيم) * في أمره وخلقه. ومن حكمته، أن أرسل عبده، موسى بن عمران، الذي علم الله منه، أنه أهل لرسالته ووحيه وتكليمه. ومن عزته، أن تعتمد عليه، ولا تستوحش من انفرادك، وكثرة أعدائك، وجبروتهم. فإن نواصيهم، بيد الله، وحركاتهم وسكونهم، بتدبيره. * (وألق عصاك) * فألقاها * (فلما رآها تهتز كأنها جان) * وهو ذكر الحيات، سريع الحركة. * (ولى مدبرا ولم يعقب) * ذعرا من الحية التي رأى، على مقتضى الطبائع البشرية. فقال الله له: * (يا موسى لا تخف) * وقال في الآية الأخرى: * (أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) *. * (إني لا يخاف لدي المرسلون) * لأن جميع المخاوف مندرجة في قضائه وقدره، وتصريفه، وأمره. فالذين اختصهم الله برسالته، واصطفاهم لوحيه، لا ينبغي لهم أن يخافوا غير الله، خصوصا عند زيادة القرب منه، والحظوة بتكليمه. * (إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء) * أي: فهذا الذي هو محل الخوف والوحشة بسبب ما أسدى من الظلم، وما تقدم له من الجرم. وأما المرسلون، فما لهم وللوحشة، والخوف؟ ومع هذا، من ظلم نفسه بمعاصي الله، وتاب وأناب، فبدل سيئاته حسنات، ومعاصيه طاعات، فإن الله غفور رحيم. فلا ييأس أحد من رحمته ومغفرته، فإنه يغفر الذنوب جيمعا، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها. * (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) * لا برص ولا نقص، بل بياض يبهر الناظرين شعاعه. * (في تسع آيات إلى فرعون وقومه) * أي: هاتان الآيتان، انقلاب العصا حية تسعى، وإخراج اليد من
(٦٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 596 597 598 599 600 601 602 603 604 605 606 ... » »»