تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٠٩
فلم يجئنا، ولا رأينا فيه شيئا. * (إن هذا إلا أساطير الأولين) * أي: قصصهم وأخبارهم، التي تقطع بها الأوقات، وليس لها أصل، ولا صدق فيها. فانتقل في الإخبار عن أحوال المكذبين بالإخبار كأنهم لا يدرون متى وقت الآخرة، ثم الإخبار بضعف علمهم فيها، ثم الإخبار بأنه شك، ثم الإخبار بأنهم عمي، ثم الإخبار بإنكارهم لذلك، واستبعادهم وقوعه. أي: وبسبب هذه الأحوال ترحل خوف الآخرة من قلوبهم، فأقدموا على معاصي الله، وسهل عليهم تكذيب الحق، والتصديق بالباطل، واستحلوا الشهوات على القيام بالعبادات، فخسروا دنياهم وأخراهم. نبههم على صدق ما أخبرت به الرسل فقال: * (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين) * فلا تجدون مجرما قد استمر على إجرامه. إلا وعاقبته شر عاقبة، وقد أحل الله به من الشر والعقوبة، ما يليق بحاله. * (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون * ويقولون متى ه ذا الوعد إن كنتم صادقين * قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون) * أي: لا تحزن يا محمد، على هؤلاء المكذبين، وعدم إيمانهم. فإنك لو علمت ما فيهم من الشر، وأنهم لا يصلحون للخير، لم تأس ولم تحزن، ولا يضق صدرك، ولا تقلق نفسك بمكرهم، فإن مكرهم ستعود عاقبته عليهم. * (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) *. ويقول المكذبون بالمعاد، وبالحق الذي جاء به الرسول، مستعجلين للعذاب: * (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * وهذا من سفاهة رأيهم وجهلهم، فإن وقوعه ووقته، قد أجله الله بأجله، وقدره بقدره، فلا يدل عدم استعجاله، على بعض مطلوبهم. ولكن مع هذا قال تعالى، محذرا لهم وقوع ما يستعجلون: * (قل عسى أن يكون ردف لكم) * أي: قرب منكم، وأوشك أن يقع بكم * (بعض الذي تستعجلون) * من العذاب. * (وإن ربك لذو فضل على الناس ول كن أكثرهم لا يشكرون * وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون * وما من غآئبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) * ينبه عباده، على سعة جوده، وكثرة أفضاله، ويحثهم على شكرها، ومع هذا فأكثر الناس قد أعرضوا عن الشكر، واشتغلوا بالنعم عن المنعم. * (وإن ربك ليعلم ما تكن) * أي: تنطوي عليه * (صدورهم وما يعلنون) *، فليحذروا من عالم السرائر والظواهر، وليراقبوه. * (وما من غائبة في السماء والأرض) * أي: خفية، وسر من أسرار العالم، العلوي والسفلي. * (إلا في كتاب مبين) * قد أحاط ذلك الكتاب، بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة. فكل حادث جلي أو خفي إلا وهو مطابق، لما كتب في اللوح المحفوظ. * (إن ه ذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون * وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين) * وهذا خبر عن هيمنة القرآن، على الكتب السابقة، وتفصيله، وتوضيحه: لما كان فيها قد وقع فيه اشتباه واختلاف عند بني إسرائيل، قصه هذا القرآن قصا، زال به الإشكال واستبان به الصواب من المسائل المختلف فيها. وإذا كان بهذه المثابة، من الجلالة والوضوح، وإزالة كلا خلاف، وفصل كل مشكل، كان أعظم نعم الله على العباد، ولكن ما كل أحد، يقابل النعمة بالشكر. ولهذا بين أن نفعه، ونوره، وهداه، مختص بالمؤمنين فقال: * (وإنه لهدى) * من الضلالة والغي والشبه * (ورحمة) * تثلج له صدورهم، وتستقيم به أمورهم الدينية والدنيوية * (للمؤمنين) * به المصدقين له، المتلقين له بالقبول، المقبلين على تدبره، المتفكرين في معانيه. فهؤلاء، تحصل لهم به، الهداية إلى الصراط المستقيم، والرحمة المتضمنة للسعادة، والفوز والفلاح. * (إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم) * أي: إن الله تعالى سيفصل بين المختصمين، وسيحكم بين المختلفين، بحكمه العدل، وقضائه القسط. فالأمور وإن حصل فيها اشتباه في الدنيا بين المختلفين، لخفاء الدليل، ولبعض المقاصد، فإنه سيبين فيها الحق المطابق للواقع، حين يحكم الله فيها. * (وهو العزيز) * الذي قهر الخلائق، فأذعنوا له. * (العليم) * بجميع الأشياء * (العليم) * بأقوال المختلفين، وعن ماذا صدت، وعن غاياتها، ومقاصدها، وسيجازي كلا بما علمه فيه. * (فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) * أي: اعتمد على ربك، في جلب المصالح، ودفع المضار، وفي تبليغ الرسالة، وإقامة الدين، وجهاد الأعداء. * (إنك على الحق المبين) * الواضح، والذي على الحق، يدعو إليه، ويقوم بنصرته، أحق من غيره بالتوكل، فإنه يسعى إلى أمر مجزوم به، معلوم صدقه، لا شك فيه، ولا مرية. وأيضا، فهو حق، في غاية البيان، لا خفاء به، ولا اشتباه. وإذا قمت بما حملت، وتوكلت على الله في ذلك، فلا يضرك ضلال من ضل، وليس عليك هداهم، فلهذا قال: * (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء) * أي: حين تدعوهم وتناديهم، وخصوصا * (إذا ولوا مدبرين) * فإنه يكون أبلغ في عدم إسماعهم. * (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم) * كما قال تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) *. * (إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) * أي: هؤلاء الذين ينقادون لك، هم الذين يؤمنون
(٦٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 604 605 606 607 608 609 610 611 620 621 622 ... » »»