قالت نملة) * منبهة لرفقتها، وبني جنسها: * (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) *. فنصحت هذه النملة، وأسمعت النمل، إما بنفسها، ويكون الله قد أعطى النمل أسماعا خارقة للعادة، لأن التنبيه للنمل، الذي قد ملأ الوادي بصوت نملة واحدة، من أعجب العجائب. وإما بأنها أخبرت من حولها من النمل، ثم سرى الخبر من بعضهن لبعض، حتى بلغ الجميع، وأمرتهن بالحذر، والطريق في ذلك، وهو دخول مساكنهن. وعرفت حالة سليمان وجنوده، وعظمة سلطانه، واعتذرت عنهم، أنهم إن حطموكم، فليس عن قصد منهم، ولا شعور، فسمع سليمان عليه الصلاة والسلام قولها، وفهمه. * (فتبسم ضاحكا من قولها) * إعجابا منه، بنصح أمتها، ونصحها، وحسن تعبيرها. وهذا حال الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، الأدب الكامل، والتعجب في موضعه، وأن لا يبلغ بهم الضحك، إلا إلى التبسم. كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم جل ضحكه، التبسم، فإن القهقهة، تدل على خفة العقل، وسوء الأدب. وعدم التبسم والعجب، مما يتعجب منه، يدل على شراسة الخلق، والجبروت. والرسل منزهون عن ذلك. وقال شاكرا لله، الذي أوصله إلى هذه الحال: * (رب أوزعني) * أي: ألهمني ووفقني * (أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي) *. فإن النعمة على الوالدين، نعمة على الولد. فسأل ربه، التوفيق للقيام بشكر نعمته، الدينية، والدنيوية، عليه وعلى والديه. * (وأن أعمل صالحا ترضاه) * أي: ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه، لكونه موافقا لأمرك، مخلصا فيه، سالما من المفسدات والمنقصات. * (وادخلني برحمتك) * التي منها الجنة * (في) * (جملة) * (عبادك الصالحين) * فإن الرحمة مجعولة للصالحين، على اختلاف درجاتهم ومنازلهم. فهذا نموذج ، ذكره الله من حالة سليمان، عند سماعه خطاب النملة ونداءها. ثم ذكر نموذجا آخر من مخاطبته للطير فقال: * (وتفقد الطير) * دل هذا، على كمال عزمه وحزمه، وحسن تنظيمه لجنوده، وتدبيره بنفسه، للأمور الصغار والكبار. حتى إنه لم يهمل هذا الأمر، وهو: تفقد الطيور، والنظر، هل هي موجودة كلها، أم مفقود منها شيء؟ وهذا هو المعنى للآية. ولم يصنع شيئا من قال: إنه تفقد الطير، لينظر أين الهدهد منه، ليدله على بعد الماء وقربه، كما زعموا عن الهدهد، أنه يبصر الماء تحت الأرض الكثيفة، فإن هذا القول، لا يدل عليه دليل، بل الدليل العقلي واللفظي، دال على بطلانه. أما العقلي: فإنه قد عرف بالعادة، والتجارب، والمشاهدات، أن هذه الحيوانات كلها، ليس منها شيء يبصر هذا البصر الخارق للعادة، وينظر الماء تحت الأرض الكثيفة، ولو كان كذلك، لذكره الله، لأنه من أكبر الآيات. وأما الدليل اللفظي: فلو أريد هذا المعنى، لقال: (وطلب الهدهد لينظر له الماء، فلما فقده قال ما قال) أو (فتش عن الهدهد، أو بحث عنه) ونحو ذلك من العبارات. وإنما تفقد الطير، لينظر الحاضر منها والغائب، ولزومها للمراكز والمواضع، التي عينها لها. وأيضا فإن سليمان عليه السلام، لا يحتاج، ولا يضطر إلى الماء، بحيث يحتاج لهندسة الهدهد. فإن عنده من الشياطين، والعفاريت، ما يحفرون له الماء، ولو بلغ في العمق ما بلغ. وسخر الله له الريح، غدوها شهر، ورواحها شهر، فكيف مع ذلك يحتاج إلى الهدهد؟ وهذه التفاسير، التي توجد، وتشتهر بها أقوال، لا يعرف غيرها، تنقل هذه الأقوال عن بني إسرائيل، مجردة، ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة، وتطبيقها على الأقوال، ثم لا تزال تتناقل، وينقلها المتأخر مسلما للمتقدم، حتى يظن أنها الحق. فيقع من الأقوال الردية في التفاسير، ما يقع. واللبيب الفطن، يعرف أن هذا القرآن الكريم، العربي المبين، الذي خاطب الله به الخلق كلهم، عالمهم، وجاهلهم، وأمرهم بالتفكر في معانيه، وتطبيقها على ألفاظه العربية المعروفة المعاني، التي لا تجهلها العرب العرباء، وإذا وجد أقوالا منقولة عن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ردها إلى هذا الأصل. فإن وافقه، قبلها، لكون اللفظ دالا عليها، وإن خالفته لفظا ومعنى، أو لفظا أو معنى، ردها، وجزم ببطلانها، لأن عنده أصلا معلوما، مناقضا لها، وهو ما يعرفه من معنى الكلام ودلالته. والشاهد أن تفقد سليمان عليه السلام للطير، وفقده الهدهد، يدل على كمال حزمه وتدبيره للملك بنفسه، وكمال فطنته، حتى تفقد هذا الطائر الصغير * (فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) * أي: هل عدم رؤيتي إياه، لقلة فطنتي به، لكونه خفيا بين هذه الأمم الكثيرة؟. أم على بابها، بأن كان غائبا من غير إذني، ولا أمري؟. فحينئذ تغيظ عليه، وتوعده فقال:
(٦٠٣)