تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٦٢٢
غير شك، ولا ارتياب لأنه وعد من كريم، صادق الوعد، لا يخلف الميعاد، لعبد قام بمرضاته، وجانب سخطه. * (كمن متعناه متاع الحياة الدنيا) * فهو يأخذ فيها، ويعطي، ويأكل ويشرب، ويتمتع كما تتمتع البهائم، قد اشتغل بدنياه عن آخرته، ولم يرفع بهدى الله رأسا، ولم ينقد للمرسلين. فهو لا يزال كذلك، لا يتزود من دنياه إلا الخسار والهلاك. * (ثم هو يوم القيامة من المحضرين) * للحساب وقد علم أنه لم يقدم خيرا لنفسه، وإنما قدم جميع ما يضره، وانتقل إلى دار الجزاء على الأعمال. فما ظنكم بما يصير إليه؟ وما تحسبون ما يصنع به؟ فليختر العاقل لنفسه، وما هو أولى بالاختيار، وأحق الأمرين بالإيثار. * (ويوم يناديهم فيقول أين شركآئي الذين كنتم تزعمون * قال الذين حق عليهم القول ربنا ه ؤلاء الذين أغوينآ أغويناهم كما غوينا تبرأنآ إليك ما كانوا إيانا يعبدون * وقيل ادعوا شركآءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون * ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين * فعميت عليهم الأنب آء يومئذ فهم لا يتسآءلون) * هذا إخبار من الله تعالى، عما يسأل عنه الخلائق يوم القيامة، وأنه يسألهم عن أصول الأشياء، عن عبادة الله، وإجابة رسله فقال: * (ويوم يناديهم) * أي: ينادي من أشركوا به شركاء، يعبدونهم، ويرجون نفعهم، ودفع الضرر عنهم، فيناديهم، ليبين لهم عجزها، وضلالهم. * (فيقول أين شركائي) *، وليس لله شريك، ولكن ذلك بحسب زعمهم وافترائهم. ولهذا قال: * (الذين كنتم تزعمون) * فأين هم، بذواتهم، أين نفعهم وأين دفعهم؟ ومن المعلوم أنهم يتبين لهم في تلك الحال، أن الذي عبدوه، ورجوه باطل، مضمحل في ذاته، وما رجوا منه، فيقولون: أي يحكمون على أنفسهم بالضلالة والغواية. ولهذا * (قال الذين حق عليهم القول) * من الرؤساء والقادة في الكفر والشر، مقرين بغوايتهم وإغوئهم: * (ربنا هؤلاء) * التابعون * (الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا) * أي: كلنا قد اشترك في الغواية، وحق عليه كلمة العذاب. * (تبرأنا إليك) * من عبادتهم، أي نحن برآء منهم، ومن عملهم. * (ما كانوا إيانا يعبدون) * إنما كانوا يعبدون الشياطين. * (وقيل) * لهم: * (ادعوا شركاءكم) * على ما أملتم فيهم من النفع. فأمروا بدعائهم في ذلك الوقت الحرج، الذي يضطر فيه العابد إلى من عبده. * (فدعوهم) * لينفعوهم، أو يدفعوا عنهم من عذاب الله من شيء. * (فلم يستجيبوا لهم) * فعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، مستحقين للعقوبة. * (ورأوا العذاب) * الذي سيحل بهم عيانا، بأبصارهم بعدما كانوا مكذبين به، منكرين له. * (لو أنهم كانوا يهتدون) * أي: لما حصل لهم ما حصل، ولهدوا إلى صراط الجنة، كما اهتدوا في الدنيا، ولكن لم يهتدوا، فلم يهتدوا. * (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) *، هل صدقتموهم واتبعتموهم، أم كذبتموهم وخالفتموهم؟ * (فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون) * أي: لم يحيروا عن هذا السؤال جوابا، ولم يهتدوا إلى الصواب. ومن المعلوم أنه لا ينجي في هذا الموضع إلا التصريح بالجواب الصحيح، المطابق لأحوالهم، من أننا أجبناهم بالإيمان، والانقياد. ولكن لما علموا تكذيبهم لهم وعنادهم لأمرهم، لم ينطقوا بشيء. ولا يمكن أن يتساءلوا، ويتراجعوا بينهم، في ماذا يجيبون به، ولو كان كذبا. * (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين) * لما ذكر تعالى سؤال الخلق عن معبودهم، وعن رسلهم، ذكر الطريق الذي ينجو به العبد، من عقاب الله تعالى، وأنه لا نجاة إلا لمن اتصف بالتوبة عن الشرك والمعاصي، وآمن بالله فعبدوه، وآمن برسله، فصدقهم، وعمل صالحا، متبعا فيه للرسل. * (فعسى أن يكون) * من جمع هذه الخصال * (من المفلحين) * الناجحين بالمطلوب، الناجين من المرهوب. فلا سبيل إلى الفلاح بدون هذه الأمور. * (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون * وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون * وهو الله لا إل ه إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون) * هذه الآيات، فيها عموم خلفه لسائر المخلوقات، ونفوز مشيئته بجميع البريات، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه، من الأشخاص، والأوامر والأزمان، والأماكن. وأن أحدا ليس له من الأمر والاختيار شيء. وأنه تعالى، منزه عن كل ما يشركون به، من الشريك، والظهير والعوين، والولد، والصاحبة، ونحو ذلك، مما أشرك به المشركون. وأنه العالم بما أكنته الصدور، وما أعلنوه. وأنه وحده، المعبود المحمود، في الدنيا والآخرة، على ما له من صفات الجلال والجمال، وعلى ما أسداه إلى خلقه من الإحسان والإفضال. وأنه هو الحاكم في الدارين: في الدنيا، بالحكم القدري، الذي أثره جميع ما خلق وذرأ، والحكم الديني، الذي أثره جميع الشرائع، والأوامر والنواهي. وفي الآخرة يحكم بحكمه القدري والجزائي، ولهذا قال: * (وإليه
(٦٢٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 609 610 611 620 621 622 623 624 625 626 627 ... » »»