تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٩٨
اشتمل على الخير الكثير، والبر الغزير. وفيه من الهداية، لمصالح الدارين، والأخلاق الفاضلة، ما ليس في غيره في قوله: * (وإنه لتنزيل رب العالمين) * من تعظيمه وشدة الاهتمام به، من كونه نزل من الله، لا من غيره، مقصودا فيه نفعكم وهدايتكم. * (نزل به الروح الأمين) * وهو: جبريل عليه السلام، الذي هو أفضل الملائكة وأقواهم، * (الأمين) * الذي قد أمن أن يزيد فيه أو ينقص. * (على قلبك) * يا محمد * (لتكون من المنذرين) * تهدي به إلى طريق الرشاد، وتنذر به عن طريق الغي. * (بلسان عربي) * وهو أفضل الألسنة، بلغة من بعث إليهم، وباشر دعوتهم أصلا، اللسان البين الواضح. وتأمل كيف اجتمعت هذه الفضائل الفاخرة في هذا الكتاب الكريم، فإنه أفضل الكتب، نزل به أفضل الملائكة، على أفضل الخلق، على أفضل أمة أخرجت للناس، بأفضل الألسنة وأفصحها، وأوسعها، وهو: اللسان العربي المبين. * (وإنه لفي زبر الأولين) * أي: قد بشرت به كتب الأولين وصدقته، وهو لما نزل، طبق ما أخبرت به، صدقها، بل جاء بالحق، وصدق المرسلين. * (أو لم يكن لهم آية) * على صحته، وأنه من الله * (أن يعلمه علماء بني إسرائيل) * الذين قد انتهى إليهم العلم، وصاروا أعلم الناس، وهم أهل الصنف. فإن كل شيء يحصل به اشتباه، يرجع فيه إلى أهل الخبرة والدراية، فيكون قولهم حجة على غيرهم. كما عرف السحرة الذين مهروا في علم السحر، صدق معجزة موسى، وأنه ليس بسحر. فقول الجاهلين بعد هذا، لا يؤبه به. * (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) * الذين لا يفقهون لسانهم، ولا يقدرون على التعبير كما ينبغي * (فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين) * يقولون: ما نفقه ما يقول، ولا ندري ما يدعو إليه، فليحمدوا ربهم، أن جاءهم على لسان أفصح الخلق، وأقدرهم على التعبير عن المقاصد، بالعبارات الواضحة، وأنصحهم. وليبادروا إلى التصديق به، وتلقيه بالتسليم والقبول. ولكن تكذيبهم له من غير شبهة، إن هو إلا محض الكفر والعناد، وأمر قد توارثته الأمم المكذبة، فلهذا قال: * (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) * أي: أدخلنا التكذيب، ونظمناه في قلوب أهل الإجرام، كما يدخل السلك في الإبرة، فتشربته، وصار وصفا لها. وذلك بسبب ظلمهم وجرمهم، فلذلك * (لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم) * على تكذيبهم. * (202) * (فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) * أي: يأتيهم على حين غفلة، وعدم إحساس منهم، ولا استشعار بنزوله، ليكون أبلغ في عقوبتهم والنكال بهم. * (فيقولوا) * إذ ذاك: * (هل نحن منظرون) * أي: يطلبون أن ينظروا ويمهلوا، والحال إنه قد فات الوقت، وحل بهم العذاب، الذي لا يرفع عنهم، ولا يفتر ساعة. * (أفبعذابنا يستعجلون * أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) * يقول تعالى: * (أفبعذابنا) * وهو العذاب الأليم العظيم، الذي لا يستهان به، ولا يحتقر، * (يستعجلون) * فما الذي غرهم؟ هل فيهم قوة وطاقة، للصبر عليه؟، أم عندهم قوة يقدرون بها على دفعه، أو رفعه، إذا نزل؟، أم يعجزوننا، ويظنون أننا، لا نقدر على ذلك. * (أفرأيت إن متعناهم سنين) * أي: أفرأيت إذا لم نستعجل عليهم، بإنزال العذاب، وأمهلناهم عدة سنين، يتمتعون في الدنيا * (ثم جاءهم ما كانوا يوعدون) * (من العذاب) * (ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) * من اللذات، والشهوات، أي: أي شيء يغني عنهم، ويفيدهم، وقد مضت اللذات، وبطلت، واضمحلت، وأعقبت تبعا لها، وضوعف لهم العذاب عند طول المدة. القصد أن الحذر، من وقوع العذاب، واستحقاقهم له. وأما تعجيله وتأخيره، فلا أهمية تحته، ولا جدوى عنده. * (ومآ أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين * وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون) * يخبر تعالى عن كمال عدله، في إهلاك المكذبين، وأنه ما أوقع بقرية، هلاكا وعذابا، إلا بعد أن يعذر منهم، ويبعث فيه النذر بالآيات البينات، فيدعونهم إلى الهدى، وينهونهم عن الردى، ويذكرونهم بآيات الله، وينبهونهم على أيامه في نعمه ونقمه. * (ذكرى) * لهم وإقامة حجة عليهم. * (وما كنا ظالمين) * فنهلك القرى، قبل أن ننذرهم، ونأخذهم، وهم غافلون عن النذر، كما قال تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * () * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *. ولما بين تعالى، كمال القرآن وجلالته، نزهه عن كل صفة نقص، وحماه وقت نزوله، وبعد نزوله من شياطين الجن والإنس فقال: * (وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم) * أي: لا يليق بحالهم ولا يناسبهم * (وما يستطيعون) * (ذلك) * (إنهم عن السمع لمعزولون) * قد: أبعدوا عنه، وأعدت لهم الرجوم لحفظه، ونزل به جبريل، أقوى الملائكة، الذي لا يقدر شيطان أن يقربه، أو يحوم حول ساحته، وهذا كقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *. * (فلا تدع مع الله إل ها آخر فتكون من المعذبين * وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون) * ينهى تعالى رسوله أصلا، وأمته أسوة له في ذلك، عن دعاء غير الله، من جميع المخلوقين، وأن ذلك موجب للعذاب الدائم، والعقاب السرمدي، لكونه
(٥٩٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 593 594 595 596 597 598 599 600 601 602 603 ... » »»