تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٠٨
شكرها لما ينزله الله عليها من المطر، وأنها بإذن ربها، تخرج النبات المختلف الأنواع أخبر أنه خلقنا منها، وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها، ومنها يخرجنا تارة أخرى. فكما أوجدنا منها من العدم، وقد علمنا ذلك، وتحققناه، فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا، ليجازينا بأعمالنا، التي عملناها عليها. وهذان دليلان على الإعادة عقليان واضحان: إخراج النبات من الأرض بعد موتها، وإخراج المكلفين منها في إيجادهم. * (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى * قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى * قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى * قالوا إن ه ذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى * قالوا يا موسى إمآ أن تلقي وإمآ أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى * فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال آمنتم له قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على ما جآءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي ه ذه الحياة الدنيآ * إنآ آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ومآ أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) * يخبر تعالى، أنه أرى فرعون من الآيات والعبر والقواطع، جميع أنواعها العيانية، والأفقية والنفسية، فما استقام ولا ارعوى، وإنما كذب وتولى. كذب الخبر، وتولى عن الأمر والنهي، وجعل الحق باطلا، والباطل حقا، وجادل بالباطل، ليضل الناس فقال: * (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك) *، زعم أن هذه الآيات التي أراه إياها موسى، سحر وتمويه، المقصود منها، إخراجهم من أرضهم، والاستيلاء عليها، ليكون كلامه مؤثرا في قلوب قومه، فإن الطباع، تميل إلى أوطانها، ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها. فأخبرهم أن موسى هذا قصده، ليبغضوه، ويسعوا في محاربته، فلنأتينك بسحر مثل سحرك فأمهلنا، واجعل لنا * (موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى) * أي: مستو علمنا وعلمك به، أو مكانا سويا معتدلا لتتمكن من رؤية ما فيه. فقال موسى: * (موعدكم يوم الزينة) * وهو عيدهم، الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهم. * (وأن يحشر الناس ضحى) * أي: يجمعون كلهم في وقت الضحى، وإنما سأل موسى ذلك، لأن يوم الزينة ووقت الضحى، فيه يحصل كثرة الاجتماع، ورؤية الأشياء على حقائقها، ما لا يحصل في غيره. * (فتولى فرعون فجمع كيده) * أي: جميع ما يقدر عليه، مما يكيد به موسى، فأرسل في مدائنه، من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم، وكان السحر إذ ذاك، متوافرا، وعلمه مرغوبا فيه، فجمع خلقا كثيرا من السحرة، ثم أتى كل منهما للموعد، واجتمع الناس للموعد. فكان الجمع حافلا، حضره الرجال والنساء، والملأ، والأشراف، والعوام، والصغار، والكبار، وحضوا الناس على الاجتماع وقالوا للناس: * (هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) *. فحين اجتمعوا من جميع البلدان، وعظهم موسى عليه السلام، وأقام الحجة عليهم، وقال لهم: * (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب) * أي: لا تنصروا ما أنتم عليه من الباطل بسحركم وتغالبون الحق، وتفترون على الله الكذب فيستأصلكم بعذاب من عنده، ويخيب سعيكم وافتراؤكم، فلا تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون وملئه، ولا تسلموا من عذاب الله. وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب، لا جرم، ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة، لما سمعوا كلام موسى، وارتبكوا. ولعل من جملة نزاعهم، الاشتباه في موسى، هل هو على الحق أم لا؟ ولكن هم إلى الآن، ما تم أمرهم، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، * (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة) *، فحينئذ أسروا فيما بينهم النجوى، وأنهم يتفقون على مقالة واحدة، لينجحوا في مقالهم وفعالهم، وليتمسك الناس بدينهم. والنجوى التي أسروها وفسرها، بقوله: * (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما) * كمقالة فرعون السابقة، فإما أن يكون ذلك توافقا من فرعون والسحرة على هذه المقالة من غير قصد، وإما أن يكون تلقنيا منه لهم مقالته، التي صمم عليها، وأظهرها للناس، وزادوا على قول فرعون أن قالوا: * (ويذهبا بطريقتكم المثلى) * أي: طريقة السحر حسدكم عليها، وأراد أن يظهر عليكم، ليكون له الفخر والصيت والشهرة، ويكون هو المقصود بهذا العلم، الذي شغلتم زمانكم فيه ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه، وما يتبع ذلك من الرياسة، وهذا حض من بعضهم على بعض، على الاجتهاد في مغالبته، ولهذا قالوا: * (فأجمعوا كيدكم) * أي: أظهروه دفعة واحدة، متظاهرين متساعدين فيه، متناصرين، متفقا رأيكم وكلمتكم. * (ثم ائتوا صفا) * ليكون أمكن لعملكم، وأهيب لكم في القلوب، ولئلا يترك بعضكم بعض مقدوره من العمل، واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره، فإنه المفلح الفائز، فهذا يوم له ما بعده من الأيام. فما أصلبهم في باطلهم، وأشدهم فيه، حيث أتوا بكل سبب، ووسيلة وممكن، ومكيدة يكيدون بها الحق، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويظهر الحق على الباطل، فلما تمت مكيدتهم، وانحصر قصدهم، ولم يبق إلا العمل * (قالوا يا موسى إما أن تلقي) * عصاك * (وإما أن نكون أول من ألقى) *. خيروه، موهمين أنهم على جزم من ظهورهم عليه، بأي حالة كانت. فقال لهم موسى: * (بل ألقوا) * فألقوا حبالهم وعصيهم. * (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه) * أي: إلى موسى * (من سحرهم) * البليغ * (أنها تسعى) * فلما خيل إلى موسى ذلك، * (أوجس في نفسه خيفة موسى) * كما هو مقتضى الطبيعة البشرية، وإلا فهو جازم بوعد الله ونصره. * (قلنا) * له تثبيتا وتطمينا: * (لا تخف إنك أنت الأعلى) * عليهم، أي: ستعلو عليهم وتقهرهم، ويذلوا
(٥٠٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 503 504 505 506 507 508 509 510 511 512 513 ... » »»