البرد، ولم يكن عنده ما يتدفأ به في سفره. * (فقال لأهله امكثوا إني آنست) * أي: أبصرت * (نارا) * وكان ذلك في جانب الطور الأيمن. * (لعلي آتيكم منها بقبس) * تصطلون به * (أو أوجد على النار هدى) *. أي: من يهديني الطريق. وكان مطلبه، النور الحسي والهداية الحسية، فوجد ثم النور المعنوي، نور الوحي، الذي تستنير به الأرواح والقلوب، والهداية الحقيقية، هداية الصراط المستقيم، الموصلة إلى جنات النعيم. فحصل له أمر، لم يكن في حسابه، ولا خطر بباله. * (فلما أتاها) * أي: النار التي آنسها من بعيد، وكانت في الحقيقة نورا، وهي نار تحرق وتشرق، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (حجابه النور أو النار لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه، ما انتهى إليه بصره)، فلما وصل إليها نودي منها أي: ناداه الله كما قال: * (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا) *. * (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) * أخبره أنه ربه، وأمره، أن يستعد ويتهيأ لمناجاته، ويهتم لذلك، ويلقي نعليه، لأنه بالوادي المقدس المطهر المعظم. ولو لم يكن من تقديسه، إلا أنه اختاره لمناجاته، كليمه موسى، لكفى. وقد قال كثير من المفسرين: (إن الله أمره أن يلقي نعليه، لأنهما من جلد حمار) فالله أعلم بذلك. * (وأنا اخترتك) * أي: تخيرتك واصطفيتك من الناس، وهذه أكبر نعمة ومنة أنعم الله بها عليه، تقتضي من الشكر، ما يليق بها، ولهذا قال: * (فاستمع لما يوحى) * أي: ألق سمعك للذي أوحى إليك فإنه حقيق بذلك، لأنه أصل الدين ومبدأه، وعماد الدعوة الإسلامية. ثم بين الذي يوحيه إليه بقول: * (إنني أنا الله لا إله إلا أنا) * أي: الله المستحق الألوهية المتصف بها، لأنه الكامل في أسمائه، وصفاته، المنفرد بأفعاله، الذي لا شريك له، ولا مثيل، ولا كفو ولا سمي. * (فاعبدني) * بجميع أنواع العبادة، ظاهرها وباطنها، أصولها وفروعها، ثم خص الصلاة بالذكر وإن كانت داخلة في العبادة، لفضلها وشرفها، وتضمنها عبودية القلب، واللسان، والجوارح. وقوله: * (لذكرى) * اللام للتعليل أي: أقم الصلاة لأجل ذكرك إياي، لأن ذكره تعالى، أجل المقاصد، وبه عبودية القلب، وبه سعادته، فالقلب المعطل عن ذكر الله، معطل عن كل خير، وقد خرب كل الخراب، فشرع الله للعباد، أنواع العبادات، التي، المقصود منها، إقامة ذكره وخصوصا، الصلاة. قال تعالى: * (أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر) *، أي: ما فيها من ذكر الله أكبر من نهيها عن الفحشاء والمنكر، وهذا النوع يقال له توحيد الإلهية، وتوحيد العبادة، فالألوهية، وصفه تعالى، والعبودية، وصف عبده. * (إن الساعة آتية) * أي: لا بد من وقوعها * (أكاد أخفيها) *، أي: عن نفسي كما في بعض القراءات، كقوله تعالى: * (يسألونك عن الساعة قل إنما علمها عند الله) * وقال: * (وعنده علم الساعة) *، فعلمها، قد أخفاه عن الخلائق كلهم، فلا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل. والحكمة في إتيان الساعة * (لتجزى كل نفس بما تسعى) * من الخير والشر، فهي الباب لدار الجزاء * (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) *. * (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) * أي: فلا يصدنك ويشغلك عن الإيمان بالساعة، والجزاء، والعمل لذلك، من كان كافرا بها، غير معتقد لوقوعها. يسعى في الشك فيها، والتشكيك، ويجادل فيها، بالباطل، ويقيم من الشبه، ما يقدر عليه، متبعا في ذلك هواه، ليس قصده الوصول إلى الحق، وإنما قصاراه، اتباع هواه، فإياك أن تصغي إلى من هذه حاله، أو تقبل شيئا، من أقواله وأعماله الصادة عن الإيمان بها والسعي لها سعيها، وإنما حذر الله تعالى عمن هذه حاله، لأنه من أخوف ما يكون على المؤمن بوسوسته وتدجيله، وكون النفوس مجبولة على التشبه، والاقتداء بأبناء الجنس، وفي هذا تنبيه وإشارة إلى التحذير، عن كل داع إلى باطل، يصد عن الإيمان الواجب، أو عن كماله، أو يوقع الشبهة في القلب، وعن النظر في الكتب، المشتملة على ذلك، وذكر في هذا، الإيمان به، وعبادته، والإيمان باليوم الآخر، لأن هذه الأمور الثلاثة، أصول الإيمان، وركن الدين، وإذا تمت تم أمر الدين، ونقصه أو فقده بنقصها، أو نقص شيء منها. وهذه نظير قوله تعالى في الإخبار عن ميزان سعادة الفرق، الذين أوتوا الكتاب وشقاوتهم * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *. وقوله: * (فتردى) * أي: تهلك وتشقى، إن اتبعت طريق من يصد
(٥٠٣)