تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٥٠٦
* (ثم جئت على قدر يا موسى) * أي: جئت مجيئا، ليس اتفاقا من غير قصد، ولا تدبير منا، بل بقدر ولطف منا، وهذا يدل على كمال اعتناء الله، بكليمه، موسى عليه السلام، ولهذا قال: * (واصطنعتك لنفسي) * أي: أجريت عليه صنائعي ونعمي، وحسن عوائدي، وتربيتي، لتكون لنفسي حبيبا مختصا، وتبلغ في ذلك، مبلغا لا يناله أحد من الخلق، إلا النادر منهم. وإذا كان الحبيب إذا أراد اصطناع حبيبه من المخلوقين، وأراد أن يبلغ من الكمال المطلوب له ما يبلغ، يبذل غاية جهده، ويسعى نهاية ما يمكنه في إيصاله لذلك، فما ظنك بصنائع الرب القادر الكريم، وما تحسبه يفعل، بمن أراده لنفسه، واصطفاه من خلقه؟!! * (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) * لما امتن الله على موسر بما امتن به، من النعم الدينية والدنيوية قال له: * (اذهب أنت وأخوك) * هارون * (بآياتي) * أي: الآيات التي مني، الدالة على الحق وحسنه، وقبح الباطل، كاليد، والعصا ونحوها، في تسع آيات إلى فرعون وملإه. * (ولا تنيا في ذكري) * أي: لا تفترا، ولا تكسلا عن مداومة ذكري بالاستمرار عليه، وألزماه كما وعدتما بذلك * (كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) *، فإن ذكر الله، فيه معونة على جميع الأمور، يسهلها، ويخفف حملها. * (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) * أي: جاوز الحد، في كفره وطغيانه، وظلمه وعدوانه. * (فقولا له قولا لينا) * أي: سهلا لطيفا، برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف، ولا غلظة في المقال، أو فظاظة في الأفعال. * (لعله) * بسبب القول اللين * (يتذكر) * ما ينفعه فيأتيه. * (أو يخشى) * ما يضره فيتركه، فإن القول اللين، داع لذلك، والقول الغليظ، منفر عن صاحبه، وقد فسر القول اللين في قوله: * (فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى) *، فإن في هذا الكلام، من لطف القول، وسهولته، وعدم بشاعته، ما لا يخفى على المتأمل، فإنه أتى ب (هل) الدالة على العرض والمشاورة، التي لا يشمئز منها أحد، ودعاه إلى التزكي والتطهر من الأدناس، التي أصلها، التطهر من الشرك، الذي يقبله كل عقل سليم، ولم يقل (أزكيك) بل قال (تزكى) أنت بنفسك. ثم دعاه إلى سبيل ربه، الذي رباه، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، التي ينبغي مقابلتها بشكرها، وذكرها فقال: * (وأهديك إلى ربك فتخشى) * فلما لم يقبل هذا الكلام اللين، الذي يأخذ حسنه بالقلوب، علم أنه لا ينجع فيه تذكير، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر. * (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا) * أي: يبادرنا بالعقوبة والإيقاع بنا، قبل أن نبلغه، رسالاتك، ونقيم عليه الحجة * (أو أن يطغى) * أي: يتمرد عن الحق، ويطغى بملكه، وسلطانه، وجنده، وأعوانه. * (قال لا تخافا) * أن يفرط عليكما * (إنني معكما أسمع وأرى) * أي: أنتما بحفظي ورعايتي، أسمع قولكما، وأرى جميع أحوالكما، فلا تخافا منه، فزال الخوف عنهما، واطمأنت قلوبهما بوعد ربهما.
* (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) * أي: فأتياه بهذين الأمرين، دعوته إلى الإسلام، وتخليص هذا الشعب الشريف، بني إسرائيل، من قيده وتعبيده لهم، ليتحرروا ويملكوا أمرهم، ويقيم فيهم موسى، شرع الله ودينه. * (قد جئناك بآية) * تدل على صدقنا * (فألقى موسى عصاه * فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) * إلى آخر ما ذكر الله عنهما. * (والسلام على من اتبع الهدى) * أي: من اتبع الصراط المستقيم، واهتدى بالشرع المبين، حصلت له السلامة في الدنيا والآخرة. * (إنا قد أوحي إلينا) * أي: خبرنا من عند الله، لا من عند أنفسنا * (أن العذاب على من كذب وتولى) * أي: كذب بأخبار الله، وأخبار رسله، وتولى عن الانقياد لهم، واتباعهم، وهذا فيه الترغيب لفرعون بالإيمان والتصديق واتباعهما، والترهيب من ضد ذلك، ولكن لم يفد فيه هذا الوعظ والتذكير، فأنكر ربه، وكفر، وجادل في ذلك، ظلما وعنادا. * (قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى * الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى
(٥٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 501 502 503 504 505 506 507 508 509 510 511 ... » »»