* (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجآءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يليتني مت قبل ه ذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتهآ ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحم ن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) * أي: لما حملت بعيسى عليه السلام، خافت من الفضيحة، فتباعدت عن الناس * (مكانا قصيا) *، فلما قرب ولادها، ألجأها المخاض إلى جذع نخلة، فلما آلمها وجع الولادة، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب، ووجع قلبها من قالة الناس، وخافت عدم صبرها، تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث، وكانت نسيا منسيا، فلا تذكر. وهذا التمني بناء على ذلك المزعج، وليس في هذه الأمنية خير لها، ولا مصلحة، وإنما الخير والمصلحة، بتقدير ما حصل فحينئذ سكن الملك روعها وثبت جأشها وناداها من تحتها، لعله من مكان أنزل من مكانها، وقال لها: لا تحزني، أي: لا تجزعي ولا تهتمي، ف * (قد جعل ربك تحتك سريا) * أي: نهرا تشربين منه. * (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) * أي: طريا لذيذا نافعا * (فكلي) * من التمر، * (واشربي) * من النهر * (وقري عينا) * بعيسى، فهذا طمأنينتها من جهة السلامة من ألم الولادة، وحصول المأكل والمشرب والهني. وأما من جهة قالة الناس، فأمرها أنها إذا رأت أحدا من البشر، أن تقول على وجه الإشارة: * (إني نذرت للرحمن صوما) * أي: سكوتا * (فلن أكلم اليوم إنسيا) * أي: لا تخاطبيهم بكلام، لتستريحي من قولهم وكلامهم. وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة، وإنما لم تؤمر بمخاطبتهم في نفي ذلك عن نفسها لأن الناس لا يصدقونها، ولا فيه فائدة، وليكون تبرئتها بكلام عيسى في المهد، أعظم شاهد على براءتها. فإن إتيان المرأة بولد، من دون زوج ودعواها أنه من غير أحد، من أكبر الدعاوي، التي لو أقيم عليها عدة من الشهود، لم تصدق بذلك، فجعلت بينة هذا الخارق للعادة، أمرا من جنسه، وهو كلام عيسى في حال صغره جدا. * (فأتت به قومها تحمله قالوا يمريم لقد جئت شيئا فريا * يأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) * ولهذا قال تعالى: * (فأتت به) * إلى * (أبعث حيا) *. أي: فلما تعلت مريم من نفاسها، أتت بعيسى قومها تحمله، وذلك، لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها، فأتت غير مبالية ولا مكترثة، فقالوا: * (لقد جئت شيئا فريا) * أي: عظيما وخيما وأرادوا بذلك: البغاء حاشاها من ذلك. * (يا أخت هارون) * الظاهر، أنه أخ لها حقيقي، فنسبوها إليه. * (ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) * أي: لم يكن أبواك إلا صالحين سالمين من الشر، وخصوصا هذا الشر، الذي يشيرون إليه، وقصدهم: فكيف كنت على غير وصفهما؟ وأتيت بما لم يأتيا به؟ وذلك أن الذرية في الغالب بعضها من بعض، في الصلاح وضده، فتعجبوا بحسب ما قام بقلوبهم كيف وقع منها. فأشارت لهم إليه، أي: كلموه. وإنما أشارت لذلك، لأنها أمرت عند مخاطبة الناس لها، أن، تقول: * (إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) *، فلما أشارت إليهم بتكليمه، تعجبوا من ذلك وقالوا: * (كيف نكلم من كان في المهد صبيا) * لأن ذلك لم تجر به عادة، ولا حصل من أحد في ذلك السن. فحينئذ قال عيسى عليه السلام، وهو في المهد صبي: * (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) *، فخاطبهم بوصفه بالعبودية، وأنه ليس فيه صفة، يستحق بها أن يكون إلها، أو ابنا للإله، تعالى الله عن قول النصارى المخالفين لعيسى في قوله: * (إني عبد الله) * ومدعون موافقته. * (آتاني الكتاب) * أي: قضى أن يؤتيني الكتاب * (وجعلني نبيا) * فأخبرهم بأنه عبد الله، وأن الله علمه الكتاب، وجعله من جملة أنبيائه، فهذا من كماله لنفسه. ثم ذكر تكميله لغيره فقال: * (وجعلني مباركا أينما كنت) * أي: في أي مكان، وأي زمان، فالبركة جعلها الله في من تعليم الخير والدعوة إليه، والنهي عن الشر، والدعوة إلى الله في أقواله، وأفعاله فكل من جالسه، أو اجتمع به، نالته بركته، وسعد به مصاحبه. * (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) * أي: أوصاني بالقيام بحقوقه، التي من أعظمها الصلاة، وحقوق عباده، التي أجلها الزكاة، مدة حياتي، أي: فأنا ممتثل لوصية ربي، عامل عليها، منفذ لها. وأوصاني أيضا، أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الإحسان، وأقوم بما ينبغي لها، لشرفها وفضلها، ولكونها والدة، لها حق الولادة وتوابعها. * (ولم يجعلني جبارا) * أي: متكبرا على الله، مترفعا على عباده * (شقيا) * في دنياي وأخراي، فلم يجعلني كذلك بل جعلني مطيعا له خاضعا خاشعا متذللا، متواضعا لعباد الله، سعيدا في الدنيا والآخرة، أنا ومن اتبعني. فما تم له الكمال، ومحامد الخصال قال: * (والسلام علي يوم
(٤٩٢)