البر، وأحق ببر الإنسان، قرابته. ثم عينه بسؤاله فقال: * (هارون أخي * اشدد به أزري) * أي: قوني به وشد به ظهري. قال الله: * (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا) *. * (وأشركه في أمري) * أي: في النبوة، بأن تجعله نبيا رسولا، كما جعلتني. ثم ذكر الفائدة في ذلك فقال: * (كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) * علم، عليه الصلاة والسلام، أن مدار العبادات كلها والدين، على ذكر الله، فسأل الله أن يجعل أخاه معه، يتساعدان ويتعاونان على البر والتقوى، فيكثر منهما ذكر الله، من التسبيح، والتهليل، وغيره من أنواع العبادات. * (إنك كنت بنا بصيرا) * تعلم حالنا، وضعفنا، وعجزنا، وافتقارنا إليك في كل الأمور، وأنت أبصر بنا، من أنفسنا وأرحم، فمن علينا بما سألنك، وأجب لنا فيما دعوناك. فقال الله: * (قد أوتيت سؤالك يا موسى) * أي: أعطيت جميع ما طلبت، فسنشرح صدرك، ونيسر أمرك، ونحل عقدة من لسانك، يفقهوا قولك، ونشد عضدك بأخيك هارون، * (ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) *. وهذا السؤال من موسى عليه السلام، يدل على كمال معرفته بالله، وكمال فطنته ومعرفته للأمور، وكمال نصحه. وذلك أن الداعي إلى الله، المرشد للخلق، خصوصا إذا كان المدعو من أهل العناد، والتكبر، والطغيان، يحتاج إلى سعة صدر، وحلم تام، على ما يصيبه من الأذى، ولسان فصيح، يتمكن من التعبير به عن ما يريده ويقصده. بل الفصاحة والبلاغة لصاحب هذا المقام، من ألزمه ما يكون، لكثرة المراجعات والمراوضات، ولحاجته لتحسين الحق، وتزيينه بما يقدر عليه، ليحببه إلى النفوس، وإلى تقبيح الباطل وتهجينه، لينفر عنه. ويحتاج مع ذلك أيضا، أن يتيسر له أمره، فيأتي البيوت من أبوابها، ويدعو إلى سبيل الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، يعامل الناس كلا بحسب حاله. وتمام ذلك، أن يكون لمن هذه صفته، أعوان ووزراء، يساعدونه على مطلوبه، لأن الأصوات إذا كثرت، لا بد أن تؤثر، فلذلك سأله عليه الصلاة والسلام هذه الأمور، فأعطيها. وإذا نظرت إلى حالة الأنبياء المرسلين إلى الخلق، رأيتهم بهذه الحال، بحسب أحوالهم. خصوصا، خاتمهم وأفضلهم، محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه في الذروة العليا من كل صفة كمال، وله من شرح الصدر، وتيسير الأمر، وفصاحة اللسان، وحسن التعبير والبيان، والأعوان على الحق، من الصحابة، فمن بعدهم، ما ليس لغيره. * (ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي) * لما ذكر منته على عبده ورسوله، موسى بن عمران، في الدين، والوحي، والرسالة، وإجابة سؤاله، ذكر نعمته عليه، وقت التربية، والتنقلات في أطواره فقال: * (ولقد مننا عليك مرة أخرى) * حيث ألهمنا أمك، أن تقذفك في التابوت وقت الرضاع، خوفا من فرعون، لأنه أمر بذبح أبناء بني إسرائيل، فأخفته أمه، وخافت عليه خوفا شديدا فقذفته في التابوت، ثم قذفته في اليم، أي: شط نيل مصر، فأمر الله اليم، أن يلقيه في الساحل، وقيض الله أن يأخذه، أعدى الأعداء لله ولموسى، ويتربى في أولاده، ويكون قرة عين لمن رآه. ولهذا قال: * (وألقيت عليك محبة مني) * فكل من رآه أحبه * (ولتصنع على عيني) * أي: ولتتربى على نظري وفي حفظي وكلاءتي، وأي نظر وكفالة، أجل وأكمل، من ولاية البر الرحيم، القادر على إيصال مصالح عبده، ودفع المضار عنه؟ فلا ينتقل من حالة إلى حالة، إلا، والله تعالى هو الذي دبر ذلك لمصلحة موسى. ومن حسن تدبيره، أن موسى لما وقع في يد عدوه، قلقت أمه قلقا شديدا، وأصبح فؤادها فارغا، وكادت تخبر به، لولا أن الله ثبتها، وربط على قلبها. ففي هذه الحالة، حرم الله على موسى المراضع، فلا يقبل ثدي امرأة قط، ليكون مآله إلى أمه، فترضعه، ويكون عندها، مطمئنة ساكنة، قريرة العين، فجعلوا يعرضون عليه المراضع، فلا يقبل ثديا، فجاءت أخت موسى، فقالت لهم: * (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) *. * (فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا) * وهو القبطي، لما دخل المدينة وقت غفلة من أهلها، وجد رجلين يقتتلان، واحد من شيعة موسى، والآخر من عدوه قبطي * (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه) * فدعا الله وسأله المغفرة، فغفر له، ثم فر هاربا، لما سمع أن الملأ طلبوه، يريدون قتله. * (فنجيناك من الغم) * من عقوبة الذنب، ومن القتل. * (وفتناك فتونا) * أي: اختبرناك، وبلوناك، فوجدناك مستقيما في أحوالك، أو نقلناك في أحوالك، وأطوارك، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه. * (فلبثت سنين في أهل مدين) * حين فر هاربا من فرعون وملاءه، حين أرادوا قتله. فتوجه إلى مدين، ووصل إليها، وتزوج هناك، ومكث عشر سنين، أو ثمان سنين.
(٥٠٥)